فى أول زيارة لرئيس مصرى إلى فيتنام، يقوم الرئيس عبد الفتاح السيسى بزيارة تاريخية إلى هذه الدولة الآسيوية التى نجحت، خلال السنوات ال 20 الماضية، فى أن تصبح أحد النمور الاقتصادية الآسيوية بتحقيقها متوسط معدلات نمو سنوية يزيد على 7% ، وغزت منتجاتها عالية الجودة أسواق دول صناعية كبرى مثل اليابانوالولاياتالمتحدةوالصين وأوروبا وغيرها، لتنضم إلى «نادى النمور الاقتصادية الآسيوي»، إلى جانب كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وماليزيا وإندونيسيا، بعد أن كانت المؤسسات النقدية والخبراء الاقتصاديون يعتبرونها من أفقر دول العالم ودمرتها الحرب التى شنتها عليها الولاياتالمتحدة مع نهاية ستينيات القرن ال 20، خوفا من وقوعها فى براثن الشيوعية والنفوذ وتم تقسيمها إلى دولتين شمالية شيوعية مدعومة من الصين والاتحاد السوفيتى سابقا، وجنوبية مدعومة من أمريكا والدول الغربية الأخرى. وتمثل تجربة فيتنام الاقتصادية الناجحة، واحدة من قصص النجاح الآسيوى على مدى السنوات ال 40 الماضية التى تلت التجربة اليابانية الرائدة مع بداية 1960، والتى بدأت بكوريا الجنوبية، ثم تايوانوالصين وماليزيا وإندونيسيا وهونج كونج، ثم الموجة الثالثة التى ضمت كلا من تايلاند والفلبين والهند. غير أن تجربة فيتنام فى التقدم الاقتصادى تظل متميزة لسببين رئيسيين، أولهما: الحرب التى شنتها الولاياتالمتحدة على تلك الدولة وامتدت لعدة سنوات من عام 1965 إلى أن تم التوصل لاتفاق سلام فى عام 1974، ثم تمت إعادة توحيد البلاد فى عام 1975، ثم سرعان ما انخرطت فى حرب جديدة مع الصين مع بداية 1980 لخلافات على الحدود. وثانيهما: أن هناك الكثير من العوامل المشتركة والمتشابهة بين تجربة فيتنام ومصر، أولها: أن عدد السكان فى البلدين يكاد يكون متساويا مصر 90 مليون نسمة وفيتنام 92 مليونا، غير أن مساحة فيتنام ثلث مساحة مصر فقط تقريبا أو 331 مليون كيلو متر مربع، فى حين أن مساحة مصر تزيد قليلا على المليون كيلو متر مربع. وكما خاضت فيتنام حروبا كثيرة ضد قوات استعمارية مثل فرنساوالولاياتالمتحدة ودخلت فى نزاع مسلح مع جارتها القوية الصين، فإن مصر أيضا خاضت حروبا ضد القوى الاستعمارية التى لا تريد لها التقدم، ثم عدة حروب مع إسرائيل على خلفية الصراع العربى الإسرائيلي، وهو الأمر الذى استنزف موارد اقتصادية وبشرية كان يمكن أن تُستغل فى تحقيق تقدم اقتصادى يقود مصر إلى مصاف الدول المتقدمة منذ فترة طويلة، وكما كانت مصر دائما «مطمعا» للغزاة ومقبرة لهم فى الوقت نفسه، فإن تاريخ فيتنام الذى يزيد على 2700 سنة، قضت منه ألفى عام تحارب الغزاة، ألف عام تحت الاحتلال الصيني، و100 عام تحت الاحتلال الفرنسي، و5 سنوات من الاحتلال الياباني، ثم 10 سنوات من الاحتلال الأمريكي، وكما أن مصر أنهت صراعها المسلح مع إسرائيل بتوقيع معاهدة سلام فى نهاية السبعينيات من القرن ال20، واتجهت مع عقد السبعينيات إلى الإصلاح الاقتصادي، فإن فيتنام أيضا أنهت صراعاتها المسلحة تقريبا فى الفترة نفسها وبدأت مسيرة الإصلاح الاقتصادى بقيادة الحزب الشيوعى الحاكم فى عام 1986.. إلا أن فيتنام واصلت طريق الإصلاح والنجاح الاقتصادى وتعثرت مصر وواجهت العديد من العقبات والتحديات ولم تحقق ما نجحت فيتنام فى تحقيقه. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: لماذا نجحت تجربة فيتنام فى الإصلاح الاقتصادى وواصلت مسيرتها حتى الآن بأداء اقتصادى باهر؟ البداية.. هناك 4 عوامل رئيسية أسهمت فى نجاح التجربة الفيتنامية فى التقدم الاقتصادى والصناعي.. التعليم سياسات اقتصادية واعية الاستفادة من تجربة الصين شعب دءوب يعشق العمل فى منتصف عقد الثمانينيات من القرن ال20، وبعد انتهاء الحرب التى خاضتها فيتنام من أجل الاستقلال والوحدة تحت قيادة الزعيم التاريخى «هوشى منه» لم يتبق من البلاد سوى قرى معدومة ومزارعين فقراء وعمال لا يجدون وظائف ومبان وشوارع دمرتها الحرب، وكما يقول أحد الذين زاروا البلاد فى هذا الوقت «كنت تشم رائحة الفقر والخراب والدمار فى كل قرية ومدينة»، ولم يكن من الممكن أن تتنبأ بأن هذه البلاد سوف تحقق معجزة وتتغير شوارعها ومبانيها وحالها وتدخل إلى عالم الحداثة خلال أقل من 25 عاما لتكون بذلك الأسرع فى تحقيق التقدم الاقتصادى والصناعى بين النمور الآسيوية بما فيها الصين. إصلاحات «دوى موى» جاءت نقطة انطلاق فيتنام إلى رحاب التقدم والازدهار بتبنى الحزب الشيوعى خطة إصلاحات اقتصادية ومالية واسعة أطلق عليها خطة «DoiMoi» أو التجديد فى عام 1986، أزالت الدولة بمقتضاها كل المعوقات أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتجارة، ويسرت إلى أقصى حد إجراءات بدء نشاط اقتصادى أمام المستثمرين المحليين والأجانب، وأصبح من السهل للغاية تأسيس الشركات الخاصة، وفتحت القطاعات الاقتصادية والمالية على مصاريعها أمام نشاط القطاع الخاص المحلى والأجنبي. الطرق والبنية الأساسية أيقنت سلطات فيتنام أن تمهيد الطرق وشق المزيد منها يعد عنصرا رئيسيا لتحقيق الإصلاح الاقتصادى والتوسع فى القطاعات التجارية المختلفة، وأنه عامل مهم للغاية فى جذب الاستثمارات الأجنبية. وبعد أن كانت معظم الطرق الرئيسية فى البلاد غير ممهدة ومدمرة بسبب الحرب وتقود إلى حوادث كارثية تتسبب فى خسائر اقتصادية وبشرية مميتة، أنفقت السلطات مليارات الدولارات لتطوير شبكة الطرق بصورة رائعة حتى إن الخبراء يقولون إنها تفوقت فى هذا الصدد على جارتيها تايلاند والفلبين، وهما الدولتان اللتان سبقتا فيتنام فى تبنى الإصلاح الاقتصادي، غير أن مسيرتهما تعثرت ولم يصلا إلى المستوى الذى وصلت إليه فيتنام. كما أن شبكة الكهرباء أصبحت تغطى أكثر من 96% من البلاد، بعد أن كانت منذ أقل من 20 عاما لا تغطى نصف قرى ومدن فيتنام، كما زاد عدد المطارات والموانى وأصبحت تعمل وفق أحدث الأساليب. الشباب و المشروعات الصغيرة رصد الخبراء نقطة مهمة فى أسرار التقدم الاقتصادى لفيتنام، وهى أن الحكومة شجعت الشباب وقدمت لهم التسهيلات لإقامة مشروعاتهم الخاصة، وقدمت البنوك قروضا طويلة الأجل للشباب والمستثمرين المحليين لبدء نشاط اقتصادى وتأسيس شركات، حيث يحصل الشباب على قروض ميسرة للغاية من البنوك لبدء مشروع تجارى صغير، وقد لاحظ الخبراء أن التسهيلات التى قدمتها فيتنام للشباب لبدء مشروع تجارى أكبر بكثير من تلك الإجراءات المعمول بها فى الصينوالهند ودول الآسيان الأخري، وبالتالى لعبت دورا مهما فى رواج النشاط التجارى والاقتصادى بفيتنام. مغناطيس جذب الاستثمار وبذكاء شديد استغلت فيتنام ضعف الاتحاد السوفيتى مع نهاية عقد 1980 ثم سقوطه مع انتهاء الحرب الباردة، وبالتالى خفت قبضته الشيوعية على فيتنام وتبنت سياسات «مفاجئة» وصفها البعض بالتناقض مع «الشيوعية»، حيث شجعت على تدفق رأس المال والشركات الأجنبية، خاصة من الدول الغربية وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة، من خلال تدشين السلطات الفيتنامية سياسة ما وصفته «الأسواق المفتوحة»، وخفضت الرسوم الجمركية للشركات الأجنبية بصورة غير مسبوقة لتحاكى بذلك «الشقيقة الكبرى الشيوعية الصين». وهكذا تحولت فيتنام بصورة مذهلة إلى ما وصفها الخبراء ب «مغناطيس» يجذب الاستثمارات الأجنبية، وتدفقت الشركات من اليابانوالولاياتالمتحدة وهولندا وفرنسا وسويسرا والصين وبريطانيا وحتى هونج كونج وتايوان على فيتنام لتأسيس مصانع لها وتشييد فروع لها فى هذه البلاد الواعدة. ويعتبر الخبراء فيتنام من أكثر الدول الآسيوية جذبا للاستثمارات الأجنبية والمستثمرين الأجانب، وأنه بفضل تلك الاستثمارات حققت فيتنام هذا التقدم الاقتصادى والصناعى المذهل. ويشير العديد من الدراسات البريطانية على وجه التحديد إلى أن فيتنام خلال العقود الثلاثة الأخيرة كانت أهم مقصد للمستثمرين الأجانب، بعد الصينوالبرازيلوالهند وروسيا. ففى عام 2003 على سبيل المثال كان حجم الاستثمارات الأجنبية نحو 3.2 مليار دولار فقط، قفز فى عام 2008 إلى 71.7 مليار دولار، ويقدره الخبراء فى عام 2016 بنحو 103.24 مليار دولار. [لاحظ أن إجمالى الاستثمارات الأجنبية فى مصر فى عام 2017 وصل إلى 8 مليارات فقط، كما قالت وزيرة التعاون الدولى منذ أيام فى ندوة بالأهرام]. وهكذا تحولت فيتنام بسرعة مذهلة من دولة يعتمد اقتصادها على الزراعة بشكل أساسى إلى دولة تقدم المنتجات الصناعية عالية الجودة، فضلا عن الخدمات الراقية التى لا تقارن إلا بالدول المتقدمة مثل اليابان وسنغافورة وأمريكا. فقد كانت القطاعات الزراعية تسهم بأكثر من 60% من اقتصاد البلاد فى 1990 وكان المزارعون هم أساس القوة العاملة فى البلاد، ولكن خلال الأعوام ال15 الأولى من خطة الإصلاح تراجعت حصة الزراعة فى الاقتصاد بشكل كبير جدا لمصلحة التحول الصناعى بصورة يقول الخبراء عنها لم تشهدها أى دولة من دول النمور الآسيوية حتى الصين نفسها، ولم تعد الزراعة تسهم إلا بنحو 20% فقط فى الاقتصاد، وكما تقول مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، فإن مثل هذا التحول استغرق فى الصين 29 عاما، وليس 15 عاما كما فى فيتنام، وفى الهند استغرق 41 عاما. ومع بداية 1990 أصبحت فيتنام من أسرع دول النمور الآسيوية نموا وتوسعا فى الأنشطة الاقتصادية باستثناء الصين، التى كانت تحقق آنذاك معدل نمو يتجاوز ال10% سنويا، حيث حققت فيتنام معدل نمو تجاوز 7% عقب الألفية الثانية، وهو معدل لم تكن تحققه أى دولة آسيوية أخرى فى هذا الوقت باستثناء الصين. التعليم.. التعليم.. التعليم أحد أهم عناصر نجاح التقدم الاقتصادى والصناعى فى فيتنام كما يقول الخبراء هو التعليم.. حيث يمثل الشباب فى فيتنام غالبية السكان (نحو 60%)، وقد أدركت السلطات أن التعليم الراقى هو الذى قاد اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبيةوالصين إلى التقدم، فعمدت إلى تطوير التعليم بصورة راقية وخصصت نحو 7% سنويا من ميزانية البلاد للإنفاق على التعليم وتخريج أجيال شابة متعلمة ومدربة. [لاحظ أن نصيب التعليم فى مصر لا يزيد على 4٪ من إجمالى الدخل القومى!!] وكما تقول مجلة «إيكونوميست»، فإن كثيرا من الدول لديها قوة عمالة شابة، وتخصص المليارات للإنفاق على التعليم، ولكنها لم تتمكن من تبنى سياسات واعية لاستغلال وتعليم وتدريب طاقات الشباب لدعم قوتها الاقتصادية كما فعل فيتنام. ويشير الخبراء إلى أن الشعب الفيتنامى لديه قدرة هائلة على التعلم، وأن الطالب الفيتنامى أفضل من الطالب الأمريكى والبريطانى فى الرياضيات والعلوم، كما تقول «إيكونوميست»، وهكذا نجحت الدولة الفيتنامية فى استغلال طاقات شبابها من خلال التعليم والتدريب لدعم قوتها الاقتصادية ومسيرة تقدمها. السر الصينى! أسهمت الصين بطرق عديدة فى نجاح تجربة التقدم الاقتصادى والصناعى لجارتها فيتنام. وإذا كانت فيتنام الشيوعية تجاوزت معاناة العدوان الأمريكى وأصبحت شريكة تجارية مهمة لواشنطن، فقد نجحت أيضا فى تجاوز (الماضى الحزين) مع جارتها الشيوعية الكبرى الصين. وكانت الصين فى هذا الوقت تحقق تقدما اقتصاديا مبهرا وارتفعت مستويات المعيشة وأجور العمال وأسعار الأراضى والمواد الخام بصورة غير مسبوقة، ومع نهاية الألفية الثانية وجد كثير من الشركات الصينية التى كانت «تتوالد» بسرعة مذهلة، فى فيتنام «أرضا ممهدة» لبدء نشاطها الاقتصادى أو نقل معظم أو كل أعمالها إلى فيتنام المجاورة، وشجعها على ذلك العمالة الشابة المتعلمة والمدربة ورخصها، ورخص الأراضى اللازمة لإقامة المصانع والمواد الخام، فى الوقت الذى كانت فيه كثير من الشركات الدولية الأخرى تتدفق على فيتنام للأسباب نفسها. ويعتقد الخبراء أن هذا التحول من جانب الشركات الصينية أسهم بصورة كبيرة فى تحقيق فيتنام قفزة كبيرة فى القطاعات الصناعية والخدمية، وأصبحت واحدة من الدول المصدرة للمنتجات الصناعية عالية الجودة والتقنية وأطلق عليها الخبراء «الصين الصغيرة».. وعلى سبيل المثال، فإن العامل الفنى الفيتنامى فى شركة صينية تعمل فى فيتنام يحصل على راتب يقل بنسبة 60% عن نظيره فى الصين. القفزة الثانية فى عام 2000 اتخذت السلطات الفيتنامية خطوة أخرى مهمة لتحرير الاقتصاد وتحقيق نقلة جديدة فى التقدم، حيث أعلنت «قانون الشركات» الذى قلص بشكل غير مسبوق سلطة الدولة والحزب الشيوعى فى إنشاء وعمل الشركات.. وكما يقول الخبراء؛ فإن هذا القانون قاد إلى «ثورة» فى الاقتصاد الفيتنامى وأسهم بشكل مذهل فى تحرير القيود التى كانت تكبل مسيرة التقدم الاقتصادى لفيتنام، وهكذا أصبحت فيتنام المصدر الأول للفلفل والمكسرات فى العالم، وثانى أكبر مصدر للأرز بعد تايلاند، وثانى أكبر مصدر للقهوة بعد البرازيل، وخامس دولة فى العالم فى إنتاج الشاي، وسادس أكبر مصدر للمنتجات البحرية والأسماك والجمبرى والتونة، فضلا عن صادرات الجلود والملابس الراقية والأجهزة الإلكترونية عالية الجودة، وأصبحت علامة «صنع فى فيتنام» تعنى الجودة والمتانة، ومعظم الشركات العالمية الكبرى لديها حاليا مصانع فى فيتنام فى كل القطاعات، خاصة تلك التى تحتاج أيدى عاملة متعلمة ومدربة مثل الأجهزة الإلكترونية والموبايلات والكمبيوتر وغيرها.