فى روايته الأخيرة «صوت الغُراب»، وصل «عادل عصمت» إلى أرقى تجليات النحت. فى الشخصيات، والوقائع، واللغة، متجاوزا بها كل أعماله السابقة. فهو يمضى بخطى واثقة نحو مرتقى التحقق الكبير. و«الغُراب» هنا ليس رمزا للخراب كما فى المفهوم الشعبي، ولانعياً لواقع متداع، بقدر ما هو صرخة تحذير قبل اكتمال الخراب، ما يعنى على نحو ما، أنه «رسول يعرف أسرار العتمة»، ينعق فى وجه الإنسان بصوت عالٍ، لعله يتدارك الأمور قبل انفلاتها، وخروجها عن السيطرة. وكذا المرأة عنده، هنا، وفى سائر أعماله، «ميزان المجتمع وبهاء الحياة»، كمعادل موضوعى للعوج السائد، سياسيا كان أم اجتماعيا. وكلاهما يحتاج للغة دقيقة، لا مجال فيها لترهل، ولا تردد، فبدا كأنه «يبرى معانيها» بدقة فائقة لتصبح هى والمفردات صرخة واحدة فى وجه الظلام المجحف. هل فكرت فى رمز الغراب فى التراث الشعبى؟ لم يخطر ببالى أثناء كتابة الرواية أى شيء عن رمزية الغراب فى التراث الشعبي. كنت أفكر فى الخلل فى الهوية الذى يعانيه الراوي. ولذا لم أتأمل كثيرا فى رمزية الغراب. إن لم تتأمل رمزية الغراب فكيف بنيت فكرة الرواية عليه؟ فى بداية القرن ال21 هذا، أنشأ بعض شباب طنطا (شأن كثير من مدن الدلتا والصعيد) أماكن لتجمعهم. حلقات صغيرة يتبادلون فيها الحديث والأسرار والمزاح وأحيانا الصراع والعنف؛ مادامت البيوت كاتمة على أنفاسهم ومقاهى المدينة قديمة. لم يكن قد انتشر (الكافى شوب) كما نرى اليوم. كنت عائدا إلى البيت ذات ليلة، وفى ميدان شارع بطرس لفت نظرى مجموعة شباب يرتدون ملابس سوداء بجانب كشك. كل شيء عادى فى ليلة شتوية حتى صدر صوت غراب، ثم تلاه صوت آخر، وآخر، منظرهم ب «التى شيرتات» السوداء يقفون فى الظلمة، وصدور صوت الغراب عن تلك الكتلة السوداء أثار دهشتى وانتباهي، وغدوت أراقب وقفتهم كل يوم فى نفس المكان، يعيشون بالليل وينامون طول النهار. ولم يخطر على بالى رمزية الغراب، ولا تخيلت أنها ستكون «بذرة رواية». وتحريت المعنى الاجتماعى للفانلة السوداء وعليها جمجمة وعظمتان والعيش بالليل والنوم أثناء النهار، وفكرت فى اختيارهم نعيق الغراب ليكون مزحتهم فى ذلك اليوم؟ الغريب أن الميدان تحول بوجود هؤلاء الشباب، وفتحت محلات لتخدّم عليهم بالليل، محل فول وطعمية، إضافة إلى الكشك الشهير . وفكرت فى كتابة مقال عن «تحولات المدينة». وظل ذلك المشهد مصدر حيرة لى حتى جاءت أحداث 2011 ليولد ذلك الشخص الغامض الهوية الذى لايُعرف إن كان إنسانا أم غرابا، واستغرقت عاما كاملا فى تتبع سيرته لأعرف فى النهاية أنه كان غرابا، ويكشف لى المعنى الغامض لذلك التجمع الشبابي. بعد طبع الكتاب نبهنى أحد أصدقائى إلى رمزية الغراب فى التراث الشعبي، وقرأت عدة مقالات ولم أجد ما يناسب فكرتى والخبرة الشعورية التى انطلقت منها الرواية، غير تعريف فى معجم للرموز الشعبية بأن الغراب «رسول يعرف أسرار العتمة»، إن كنت أتذكر التعريف بدقة. وهذا مناسب جدا للصورة التى اتخذها ذلك الشخص فى رواية «صوت الغراب»، وفى النهاية يستطيع النقد أن ينفذ إلى أعماق النص أكثر مني، ويصل إلى معان تسللت خِفية من وراء وعيي. حسب فهمى للرواية أظن أن الغراب هنا ليس نعيًّا للواقع بل صرخة تحذير قبل اكتمال الخراب؟ وهو أيضا تمرد. الغراب هنا ليس «غراب البين» كما فى التراث العربي، وليس «رمز الشؤم»، حسب تفسير الحِس الشعبي، وليس «غراب الدفن». قد يناسبه أكثر التصور الذى قدمته قبل قليل «إنه رسول يخبرنا شيئا عن سر العتمة»، ويقول لنا «خذو حذركم»، يكشف عن خراب الحياة وعن الآفاق المغلقة، عن المستقبل الذى لا وجود له. وفى النهاية ما الذى يمكنه أن يحدث لكائنات ينغلق أمامها أفق تطورها وتحقيقها لوجودها. المرأة فى الرواية تبدو المعادل والميزان للجمال فى الحياة؟ سأقول لك بصراحة. أكن تقديرا كبيرا لأسطورة إيزيس، وأسميها فى نفسى «أمنا إيزيس». وأتمنى أن نضع تمثالها فى كل ميدان. هذه الأسطورة القديمة، ليست موجودة فى أدبنا الحديث بصورة كبيرة، لكنها فى حياتنا بطريقة أكثر وضوحا، فلو تأملت بإنصاف - دور المرأة فى حياتنا ستجد أن أعمدة الحياة فى البيوت فى كثير من الأحيان تستند على كتفها. كثيرا ما فكرت فى أنهن أقوى ما فى تلك البلاد. هؤلاء النساء يحافظن على الحياة كأنهن البرهان الواقعى على صدق التجربة العاطفية التى نبعت منها أسطورة إيزيس وأوزيريس، إنهن الجانب المضيء من حياتنا. المرأة عندك مختلفة على المستوى النفسي، كلهن واعيات بشكل ما، من العمة سعاد، إلى الخالة خضرة، إلى الصديقة ابتسام، إلى الأخت مريم، هن أنضج من الرجال؟ ربما حررت تلك الرواية خبرتى العاطفية بالمرأة، أقول ربما، تعال نتأمل بعض الشخصيات النسائية. «سعاد» إحدى بنات الستينات التى فتحت الفضاء الاجتماعى على فكرة «الحب العلني» كما نعرفه الآن. قبل ذلك كان الناس يحبون عبر الحواجز، المشربيات والشبابيك وأسطح البيوت والزوايا البعيدة عن الأعين. سعاد إحدى بنات مصر اللاتى خرجن إلى الشارع وفرضن إرادتهن ليبنين حياتهن بطريقتهن، ألا ترى أنها تحمل لمحة من إيزيس؟ تريد أن تخرج حبيبها من قبره وتعيده إلى الحياة مرة أخري؟ ربما تشبه ابتسام مناخ الثمانينات، وهى كجيلها حائرة بطاقة الحياة التى بداخلها، لا تعرف ماذا تفعل بها. أما الخالة خضرة فهى نموذج لعطاء سيدات الريف المتعلمات الطيبات. عرفت بعضهن فى حياتي، وأظننا جميعا نعرف مثلهن، وأدين لهن بالفضل، والإحساس بأن الحياة مازال بها خير. ومريم؟ إن كانت سعاد تمثل جيل الستينات، ومصر التى ذبحتها النكسة، وابتسام تمثل جيل الثمانينات، دعنا نفترض أن مريم تمثل الجيل الحالي، فيها لمسة من سعاد، وحائرة بطاقتها الجسدية مثل ابتسام، فهى أول بنت فى «عائلة البري» ترفض بشكل صريح أن تعيش ما يُفرض عليها، وتفرض إرادتها وتسعى إلى خلق حياتها. شقيقها الذى تحور إلى غراب ساعدها، واشتبك مع أخيه الكبير لمصلحتها، وتصدى له وكاد يقتله حين ضربها، هل تري؟ الغراب الذى يمثل الخراب والعتمة، كان ملاكها الحارس.