«فساد المحليات» العنوان الحاضر في كل وقت وفي كل مكان ، نستدعيه عندما تنهار عمارة فوق سكانها ، أو عند التعدي علي أراضي الدولة أو توصيل مرافق لمبان مخالفة أو تعلية مخالفة لعمارة أو حتي بناء دون ترخيص، الموضوع يثار لعدة أيام ثم ينفض المولد ويهدأ الضجيج ليستمر مسلسل فساد المحليات كما هو : ظاهرة متغلغلة في المجتمع المصري عبر سنوات طويلة لم يتم مواجهتها بشكل جدي ، مع ان الخسائر المترتبة عليها خطيرة علي البلد وعلي المواطنين وهي ليست خسائر مادية فقط بل لها أبعاد عديدة . ومع بدء معركة استرداد أراضي الدولة التي تم التعدي عليها بدأت الرقابة الإدارية معركة تطهير المحليات من الفساد، وهي معركة ليست سهلة، لكن لابد أن تؤتي ثمارها، ويتواكب ذلك مع اقتراب صدور قانون الإدارة المحلية الجديدة. فهل آن الآوان لنقتلع جذور فساد مستأصل في المحليات منذ عقود ؟ تقدير الخسائر المترتبة علي الفساد وتأثيره المباشر علي الاقتصاد المصري رصدته دراسة أجريت بمعهد التخطيط القومي خلصت فيه الي أن فاتورة هذا الفساد 50 مليار جنيه سنويا يتكبدها الوطن، وتراجع ترتيب الاقتصاد المصري في تقرير التنافسية العالمية ، كما يتسبب الفساد في هروب رءوس الاموال المحلية والأجنبية نتيجة معاناة المستثمر في إنهاء إجراءات مشروعه. «ملتقي الحوار للتنمية وحقوق الانسان» أصدر تقريرا عن فساد المحليات خلال النصف الأول من العام الماضي تحت عنوان « غياب الضمير وانعدام الرقابة « خلص الي عدة نتائج أهمها أنه خلال تلك الفترة وهي ستة أشهر تم إهدار 494 مليون جنيه علي الدولة ، وجاءت محافظة الجيزة في المرتبة الأولي، وجاءت القاهرة في المرتبة الثانية ثم الاسكندرية فالغربية. وشمل الفساد قطاعات عديدة منها الاسكان والمياه والصرف والزراعة والاوقاف والشباب ، وأنماط الفساد منها تقديم رشاوي ، وارساء مناقصات علي شركات معينة غير مسجلة بسجل الموردين بالجهات المختصة لطرح أعمال التجميل وانارة الطرق ، واختلاس مبالغ مالية ورشاوي مقابل تنفيذ قرارات هدم وازالة ، واستيلاء بعض مهندسي الاحياء علي مبالغ مالية مقابل استخراج تراخيص محلات، وتخفيض قيمة أراض تابعة للدولة لصالح شركات وأفراد مقابل رشاوي ، والتعدي علي أراض بالبناء وعدم تحرير مخالفات ، والتغاضي عن تعلية عمارات بصورة مخالفة للقانون مقابل رشاوي مالية مما يهدد أرواح المواطنين ويعرضها للخطر . وهناك أسباب ساعدت علي انتشار هذا الفساد ليستشري في المحليات علي مستوي الدولة منها : القصور التشريعي في القوانين الحالية ، فعلي سبيل المثال ترميم العقارات او ازالتها غير ملزم للمالك والمستأجر ومسموح لهم بالطعن عليه امام المحاكم ويستغرق ذلك سنوات . «أذرع الدولة» ويروي ابراهيم صابر (رئيس حي مصر الجديدة ) تجربته مع العمل في المحليات حيث تولي رئاسة عدة احياء منها دار السلام وطره والبساتين والمعادي علي مدي 15 عاما بالاضافة لحصوله علي ماجستير من اكاديمية السادات عن الادارة المحلية يقول : بلا شك لو انصلح حال الادارة المحلية فسوف ينصلح حال كل شيء، هذه حقيقة لأن المحليات هي أذرع الدولة المتصلة بالمشروعات والاقتصاد والتعديات ، ولها احتكاك مباشر بالمواطن، من هنا تبدأ فكرة الرشوة ، ومشاكل المحليات عديدة فالقرارات كثيرة ومتعارضة مع بعضها وبالتالي تحتاج لمراجعة وتنقيح لسد الثغرات التي يدخل منها الفساد ، نحتاج أيضا لهيكلة الموظفين والادارات الهندسية وموظفي الاحياء وعمل برامج تدريب لهم واعادة النظر في دخولهم ليتساوي مع زميله في القطاعات الاخري بالدولة ، والاعتماد علي الرقابة السابقة لأنها أهم من الرقابة اللاحقة واتخاذ اجراءات يمكن ان تمنع وقوع الفساد من البداية ، وهناك أمل في ان يتزامن ذلك مع اقتراب صدور قانون الادارة المحلية الجديد، وان توضع فيه صلاحيات أوسع للمحافظين ورؤساء الاحياء ، فهذا الامر يعطيهم مرونة أكبر في حل المشاكل خاصة ان المواطن عندما يتعرض لأي مشكلة حتي في المرافق يتوجه للحي ، وليس المرفق المختص ، وأتمني أيضا الاعتماد علي اللامركزية في النواحي المالية وامكانية اعطاء سلطة للحي لعمل مشروعات تجلب موارد اضافية في ظل ضعف الميزانية المخصصة للاحياء . «المركز التكنولوجي» ويضيف : لجأت الدولة لاجراء مهم للغاية هو «المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين» في الاحياء وهو يقلل من الاحتكاك المباشر بين المواطن طالب الخدمة وبين موظف الحي ، ويأتي ذلك في اطار بروتوكول مع وزارة التخطيط ووزارة التنمية المحلية بهدف تبسيط الاجراءات ، بحيث يتوجه المواطن للمركز الذي يرد عليه بعد فترة قصيرة وهذا يشبه فكرة «الشباك الواحد» حيث «لا يلف المواطن كعب داير» حتي ينهي طلبه ويستهلك وقتا ومجهودا ويدفع رشوة . واصلاح حال المحليات يحتاج تعديلا للقوانين القائمة لكي تتماشي مع ظروف البلد الحالية ، لكن هذا لا يعفي المواطن نفسه من المسئولية من منطلق ان له حقوقا وعليه واجبات، وأهم شيء ألا يقدم رشوة لموظف وان يتمسك بحقه في الحصول علي الخدمة دون دفع أموال غير الرسوم المحددة، ومن الضروري عودة الثقة بين المواطن والموظف . أما المسئول فيجب ألا يجلس في مكتبه فقط بل يجب أن يكون بينه اتصال مباشر مع المواطنين ، وقد طبقت ذلك في حي مصر الجديدة من خلال لقاء اسبوعي أفتح فيه مكتبي واستمع لشكاوي الناس وأحلها ، وايضا من خلال تليفوني الذي ارد فيه علي اي شخص متصل صاحب شكوي ، وايضا صفحة الحي علي شبكة الانترنت التي تحتوي علي يوميات لمشاكل الناس وحلولها ، كلها نوافذ وقنوات اتصال بين المواطنين ورؤساء الاحياء تحد من الفساد بشكل كبير ، وأخيرا أرجو عمل شرطة متخصصة للاحياء علي غرار شرطة السياحة ، وأيضا انشاء نيابات ومحاكم مختصة للبلدية ، فكل تلك الاجراءات تقلل من الفساد في المحليات . «من جانبين» ويقول اللواء محمد صدقي حسين (رئيس مدينة الجيزة الاسبق ) : سوف أتحدث عن فساد المحليات من واقع خبرة طويلة توليت فيها رئاسة 8 أحياء وشاهدت بعيني صور الفساد الذي أريد ان أصفه بأنه «من جانبين» وليس من جانب الموظف فقط ، مشكلة الفساد انها احتكاك بين مواطن طالب للخدمة وموظف ، والاول يقدم رشوة لانهاء طلبه اذن هو مشارك في الفساد ويشجعه . أما الطرف الثالث في المنظومة هو صاحب العقار المخالف أو من يصر علي فتح مقهي بدون ترخيص كنت أنزل حيا مثل بولاق الدكرور أو الهرم وأجد عقارا مخالفا تحت الانشاء، والحل هنا هو عدم توصيل المرافق له، واذا كان مازال في مرحلة البناء أقوم بمصادرة مواد البناء وهدم ما تم بناؤه ، الغريب انه في اليوم التالي أفاجأ بمواد بناء جديدة واعادة بناء ما تم هدمه ، أما المرافق فقد يتم توصيلها بخطاب مزور . أي ان هناك تحايلا واصرارا علي الفساد ومن الصعب أن أمر يوميا علي عقار بعينه ، فهناك غيره الكثير وهذا يفسر بناء برج سكني في ايام معدودة ، والقصة قد يكون وراءها شخصيات غير الموجودة في الواجهة أو مقاول بسيط ، هناك اصرار علي التحايل وضرب القانون عرض الحائط ، أحيانا استدعي مهندس الحي واكتشف ان الاجراءات سليمة وانه حرر محضرا بالمخالفات وترفع للنيابة والمحكمة لكن المفاجأة اسم المقاول «غلط» أو عنوان لم يستدل عليه ، وهي ثغرة تجعل الحكم يخلص للبراءة أو غرامة . وبجانب التحايل هناك ضعف العقوبات ، والآن تم تغليظ بعضها، علي سبيل المثال تشميع مكان مخالف بواسطة مسئول الحي عندما يقوم صاحب المكان بفك الشمع الغرامة كانت 50 جنيها تم رفعها الآن الي عشرة آلاف جنيه وسنة سجنا، المطلوب عدم اليأس والاستمرارية في مواجهة الفساد، والرقابة الادارية تواجه الآن الفساد بكل جدية وفي هذا عنصر ردع قوي .