برد غرق الأسفلتُ في المطر.. أحكم المارةُ القلائلُ غلقَ معاطفهم.. انكمش الصبيُ تحت شجرة الميدان الوحيدة.. عقد كفيه على صدره يرقب السياراتِ القابعة بجوار الرصيف تغادر الميدان واحدة تلو الأخرى؛ كأنما تهربُ إلى ملاجىء دفء مجهولة.. أدار صاحبُ السيارة الأخيرة مساحاتِ المطر وأضاء النور.. انسحبت السيارة إلى الخلف بينما امتدت يدُ الرجل من الزجاج الموارب تطوح بجريدة كأنها نفاية.. استقرت الجريدة الدسمة تحت الشجرة بالقرب من الصبي.. التقطها.. طالعته عليها صورٌ لشمس دافئة, ووجوه شهيرة لامعة, وصدور عريضة تتدلى فوقها كرافتاتٌ أنيقة.. اصطكت أسنانُ الولد من البرد.. طوى الجريدة نصفين ليضاعفَ سمكها ثم أدخلها تحت قميصه المهلهل كدرع.. أحكم فوقها القميص, وأعاد عقد كفيه على صدره.. وسواس حكت لى كيف احتدم النقاش مع أبيها لتقنعه بى.. دمعت وهى تشكو لى عناده الذى لن ينال من تمسكها بى أبدا.. أخذت كفها الرقيقة فى يدى.. ابتسمتُ وأنا أرمق فى السماء سرب حمام باهر التناسق كرأس سهم.. حمامة واحدة كانت تشذ عن استقامة السرب؛ لكنها تعود فى محاولة للانتظام . ابتهجت لالتئام السرب وجماله؛ لكن الحمامة القلقة ظلت تشوش ذهنى كوسواس.. اليوم ورغم أن شفتيها كانتا تختلجان وهى تحدثنى إلا أن عينيها كانتا قويتين لا أثر فيهما لبكائها المعهود.. أخبرتنى أنها لن تستطيع الخروج على أمر أبيها العنيد, وأنها لم تعد تملك ما يكفى للمقاومة.. لم أجد لديّ أنا أيضا ما يكفى من رغبة فى الرد.. رفعت رأسى أبحث عن حمام فلم أجد إلا الحمامة النافرة وحيدة فى السماء.. تابعتها بشغف.. كان مسارها مضطربا رغم انفرادها لكن اضطرابها لم يشوش ذهنى هذه المرة مطلقا.. مصباحان كان المصباح الأعلى في العنقود الكهربي كبيرا ملونا مزخرفا يسطع نوره قوياً رائقاً بينما كان الأدنى صغيرا كالحاً له ضوءٌ شاحبٌ مرتعش , وحين انقطع التيار غرقا معاً في ظلام لم يظهر فيه أيٌ منهما .. حداد فيما كان الكادر مزدحماً بالسكارى حول راقصة الملهى ولا صوت يعلو على صوت الطبلة, كانت الشاشة مكللةً بشريط الحداد الأسود حزناً على شهداء الوطن .