«حجازي» يستقبل وفدًا من وزراء التعليم بمجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC)    رسميًا.. بدء صرف معاش تكافل وكرامة يونيو 2024 (رابط الاستعلام و طريقة التسجيل )    إطلالة مميزة وساحرة للأميرة رجوة الحسين في حفل الجلوس الملكي «بالصور»    صلاح يورط حسام حسن في موقف محرج    عاجل| أول تعليق من وزير الرياضة بشأن فيديو مدرس الجيولوجيا بصالة حسن مصطفى    الأرصاد: انخفاض درجات الحرارة أول وثاني أيام عيد الأضحى    macOS 15 Sequoia .. أبل تكشف رسميا عن أحدث أنظمة تشغيل ماك    مستشفى 57357 تستقبل أنشطة أتوبيس الفن الجميل    "جدو مرجان وحكاوي زمان".. عرض مسرحي للأطفال ضمن موسم قصور الثقافة    عُزلة السفاح !    الرئيس التشيكي يعرب عن قلقه إزاء صعود الأحزاب الهامشية في أوروبا    وزير التجارة ونظيره التركي يبحثان سبل تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين    22 صورة لزيارة وزير الإسكان لمدينة العلمين الجديدة    العرض الخاص اليوم.. خالد النبوي يروج لفيلم "أهل الكهف"    قيادى بفتح: الرئيس محمود عباس يتمتع بصحة جيدة وسيشارك غدا فى مؤتمر البحر الميت    الإفتاء: النبي لم يصم العشر من ذي الحجة ولم يدع لصيامها    إرشادات للحفاظ على الوزن المثالي خلال إجازة عيد الأضحى    منطقة سوهاج الأزهرية تنظم ندوة للتوعية بترشيد استهلاك المياه    لميس الحديدي تكشف عن سبب إخفائها خبر إصابتها بالسرطان    إيرادات الأحد.. "شقو" الثاني و"تاني تاني" في المركز الأخير    محمد ممدوح يروج لدوره في فيلم ولاد رزق 3    روغوف: القوات الروسية تعزز مواقعها في بلدة أوروجاينويه بدونِتسك الشعبية    تعرف على الأضحية وأحكامها الشرعية في الإسلام    الدعم العينى.. أم الدعم النقدى؟    طريقة عمل الكيكة العادية الهشة، ألذ تحلية لأسرتك    "وطني الوحيد".. جريدة المصري اليوم تكرم الكاتب مجدي الجلاد رئيس تحريرها الأسبق    أمين الفتوى: الخروف أو سبع العجل يجزئ عن البيت كله في الأضحية    عزة مصطفى عن واقعة مدرس الجيولوجيا: شكله شاطر    تطورات جديدة حول اختفاء طائرة نائب رئيس مالاوي ومسؤولين آخرين    أول رد من جامعة الإسكندرية على فيديو رفض إعطاء مريضة سرطان جرعة كيماوي    «الصحة» تنظم برنامج تدريبي للإعلاميين حول تغطية الشؤون الصحية والعلمية    مصر تتربع على عرش جدول ميداليات البطولة الأفريقية للسلاح للكبار    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    كوريا الشمالية ترسل مزيداً من النفايات نحو الشمال.. وتحذر من رد جديد    موعد محاكمة ميكانيكي متهم بقتل ابن لاعب سابق شهير بالزمالك    10 صور ترصد استطلاع محافظ الجيزة أراء المواطنين بالتخطيط المروري لمحور المريوطية فيصل    سفر آخر أفواج حُجاج النقابة العامة للمهندسين    المرصد المصري للصحافة والإعلام يُطلق حملة تدوين في "يوم الصحفي المصري"    غدًا.. ولي عهد الكويت يتوجه إلى السعودية في زيارة رسمية    قافلة جامعة قناة السويس الطبية تفحص 115 مريضًا ب "أبو زنيمة"    ليونيل ميسي يشارك في فوز الأرجنتين على الإكوادور    "بايونيرز للتنمية" تحقق أرباح 1.17 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام    وزارة الأوقاف: أحكام وصيغ التكبير في عيد الأضحى    مستشفيات جامعة أسوان يعلن خطة الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى    اسكواش - مصطفى عسل يصعد للمركز الثاني عالميا.. ونور الطيب تتقدم ثلاثة مراكز    مفاجأة مثيرة في تحقيقات سفاح التجمع: مصدر ثقة وينظم حفلات مدرسية    الأوقاف: افتتاح 27 مسجدًا الجمعة القادمة| صور    تشكيل الحكومة الجديد.. 4 نواب في الوزارة الجديدة    مطلب برلماني بإعداد قانون خاص ينظم آليات استخدام الذكاء الاصطناعي    ضياء رشوان: لولا دور الإعلام في تغطية القضية الفلسطينية لسحقنا    سرقا هاتفه وتعديا عليه بالضرب.. المشدد 3 سنوات لسائقين تسببا في إصابة شخص بالقليوبية    صندوق مكافحة الإدمان يستعرض نتائج أكبر برنامج لحماية طلاب المدارس من المخدرات    رئيس منظمة مكافحة المنشطات: رمضان صبحي مهدد بالإيقاف لأربع سنوات حال إثبات مخالفته للقواعد    الدرندلي: أي مباراة للمنتخب الفترة المقبلة ستكون مهمة.. وتحفيز حسام حسن قبل مواجهة غينيا بيساو    جالانت يتجاهل جانتس بعد استقالته من الحكومة.. ما رأي نتنياهو؟    حالة الطقس المتوقعة غدًا الثلاثاء 11 يونيو 2024| إنفوجراف    عمر جابر يكشف كواليس حديثه مع لاعبي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اهلا يا انا
عطش عاطفى لأمواج لا تهدأ
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 06 - 2017

الشارع السكندرى هذا السنجابى الذى تصطف مبانى إغريقية على جانبيه ومن بدايته يمكن ان تلمح أمواج البحر . هذا الأزرق بسبب إنعكاس السماء على مياهيه المتمردة ؛
ثم يحولها التمرد إلى موج ابيض الحواف ؛ وحين ترتفع الأمواج تصير فضية لتعكس خيوط ضوء الشمس . وتضحك تلك الأمواج حاملة بعض أعشاب تسمى « الجار جار» التى تجمعها شركات صناعة معجون الأسنان لتهبها البياض اللائق ، ثم تصطدم الأمواج بحافة الكورنيش ؛ فيتألق الصخر ليصير برونزى اللون؛ ويتألق من بعدها طالبا الكشف عما فى أعماقه من تماثيل إيزيس الغارقة والتى يبتهل بجانبها زيوس كبير آلهة الإغريق وكأنه يرجو العفو من خالق الدنيا فهو لم يدع أحدا لعبادته ، لكنها عادة إرضاخ الغير لمجهول لايستطيعون الحوار معه، فتعده هالة النور من مأذنة سيدى المرسى ابى العباس بانها سوف تدرس طلبه كى تغفر السماء خطايا من لم يبلغه نبأ وجود إله واحد خلق الكون كله ، فتصحو السخرية على ملامح التمثال الأنثوى لإيزيس هامسة « أنا أول من حملت دعوة التوحيد للبشر؛ ولم يفهمها عنى سوى حفيدى إخناتون .
.................................................
كانت تلك الأفكار بجنونها العاطفى تدور فى رأسى وأنا أتأمل تمثال سعد زغلول ومن خلفه أمواج الميناء الشرقي. همست لنفسى « ما فكرت أنت فيه سبق وكتبته فى سطور الفصل الرابع من العمل التسجيلى عن فنان الإسكندرية سيف وانلى وهو العمل الذى أخذ من عمرك خمس سنوات بالتمام والكمال ، فقد بدأته وأنت فى الخامسة والعشرين وأنهيته وأنت فى الثلاثين ، والأن تقدم بك العمر لتسبح بين أمواج تذكاراتك ؛ هادئا حينا صارخا بالغضب أو كاتما له فى بعض الأحيان .
ها أنت تبتلع نوبات غضب قاهر ، حين قال لك أحدهم « لقد تم هدم محل إيليت الذى يحمل تذكارات من الصعب ان تزول . ولعلى وحدى من عاش فيه بصحبة الفنان السكندرى سيف وانلى . ووحدى من جعله ينطق بكل تفاصيل حياته وكان مخالى صاحب الإيليت هو الشاهد الضاحك ، هذا اليونانى الذى قال لزوجته عندما ارادت الهجرة من مصر والعودة لليونان : أنا إبن دمنهور فيها ولدت ثم عشت شبابى وفيها احببتك وفور ان تزوجنا جئت لابنى هذا المقهى على طريقة مقاهى الجزر اليونانية والموانى الإيطالية والأسبانية» .
وما إن وصلنى نبأ الشروع فى هدم الإيليت حتى غلى الدم فى عروقى ، فلست وحدى من تهبه جدران هذا المقهى أمواجا متتابعة من التذكارات لتتلاحق كل موجة من بعد أخرى لتعرض مشاهد ترفض الغياب من خيالى . ومن بطن كل موجة يطل شريط يحكى بعضا مما جرى وكأن ماجرى لم يضع أبدا . أسرعت إلى هاتفى لأتأكد من نبأ الهدم ، وتأكدت أنه مجرد شائعة . قلت لنفسى «لا أصدق ان أحدا يجرؤ على هدم الإيليت ، فهو مكان عاش فيه أكثر من فنان ؛ وعلى مائدة منه روى لى أستاذى الروائى فتحى غانم قصة العنف عندما يمسك مسدسا ليقتل الغير وهو الراصد لتيارات التاسلم وشاركتها حركات فوضوية ، احترفت فيما قبل ثورة يوليو إغتيال الخصوم . وكان يجلس معنا كاتب رائع هو وسيم خالد الذى شارك أنور السادات فى محاولة إغتيال امين عثمان احد باشاوات الزمن القديم , وتمت محاكمته ليخرج من السجن وهو ناقم على فكرة إزهاق الروح . وراح يبحث عن نجاه له من كوابيس الليل فى لعبة الشطرنج . وراح فتحى غانم يرصد تفاصيل إعترافات وسيم ليستكشف كل عوالم دنيا التنظيمات السرية فيما قبل ثورة يوليو . وإستهوت الروائى العظيم تفاصيل تلك التنظيمات وما تلاها من تيارات العنف بإسم الدين . ولم يكن فتحى غانم محترفا لتضييع الوقت فى دنيا البحث عن الشهرة والبريق ، وظلت رواياته أسيرة صفحات روز اليوسف وصباح الخير . ورغم ترجمة عدد من رواياته إلى الإنجليزية إلا أن شهرته فى المحيط العربى لم يكن لها صدى بعض أعمال كتبها من هم أقل منه قيمة فنية ولكنهم كانوا خبراء فى نشر الأخبار الصغيرة عن اعمالهم . وبعد رحيله عن عالمنا أنصفه أحد سادة النقد فى زماننا د. جابر عصفور بدراسة لا نظير لها فى فن النقد الأدبى لتحليل رواية تبدو فصولها كأنها سميفونيات موزارية هى رواية « تلك الأيام «،
وعلى نفس المائدة التى تعودت كل صيف أن أجلس فيها مع فتحى غانم عاتبته على سرعة الإيقاع التى كتب بها آخر رواياته « صاحبة العصمة وسعادة السفير والشيوعى السابق» . فإبتسم ليقول لى « تعلم أن السرطان تسلل إلى جسدى ، وكتبت هذه الرواية بسرعة لاهثة ، فقد خشيت أن يدهمنى الموت قبل أن أبلغكم بمستقبل التأسلم المصنوع من فوق يخت تاجر سلاح شهير كان سمسار توريد الشباب للحرب فى أفغانستان .
ومن يقرأ روايات فتحى غانم يمكنه أن يرى كيف نما التأسلم كتوأم للإنفتاح الساداتى ، تماما كما نمت عدم قدرة أى منا على تقبل أى خلاف فى الرأى مع الغير ، وكان يعلل ذلك بالحصار الضارى الذى فرضه الغرب على ثورة 23 يوليو التى ضربته اكثر من ضربة هائلة ، لكنه تسلل عبر هاجس الأمن عند جمال عبد الناصر ليجعله عاجزا عن تغيير قيادات القتال الذين غرقوا فى المتع والعجز عن التدريب ، فجاءته هزيمة يونيو ليفيق ويعيد ترتيب فهم معنى الأمن الذى يتلخص فى منح الأكفاء فرصة قيادة القتال فجاء عبد المنعم رياض كأسطورة مصرية تجيد نسج ارواح الرجال فى ثوب بطولة تأكدت فى حرب الإستنزاف وتجلت خيوط إرادة عبدالناصر عندما ايقظ فكرة الإيمان بالعالم العربى ، وغزل الرجال نسيج الحرية فى اكتوبر 1973 . لكن كان هناك الترهل والإنفتاح وإصرار الغرب على عدم السماح للعرب ان يغيروا معنى حياتهم بعد إنتصار اكتوبر. وعندما عزل السادات فتحى غانم من قيادة مجلة روزاليوسف ، لم يصمت فتحى غانم؛ فلم يكن باحثا عن منصب او جاه ، فهو من إرتضى لنفسه دور زرقاء اليمامة التى تستكشف رؤى المستقبل . وبعد مقتل السادات حاول مبارك إستمالته لكنه كان زاهدا ؛ مرتضيا لجوهر اراده لنفسه بان يكون الروائى المستكشف للخطر القادم . ولو كنا نجيد القراءة والفهم لوجدنا كافة شخصيات التاسلم بقدرتها على التجارة بالدين بين سطور رواياته .
وعن نفسى لا أنسى له أمر تكليفه لى بالسفر من القاهرة إلى الإسكندرية ذات ليل قديم من ايام 1962 ، حين سألنى « كم عدد الجنيهات التى فى جيبك ؟ أخرجت جنيهاتى فكانوا ثلاثة ، وأخرج من جيبه أربعة وقال لى «لقد اشترينا لروز اليوسف آلة طباعة جديدة يمكنها أن تطبع لوحات ، ما رأيك أن تسافر الأن إلى الإسكندرية وتأتى لنا بعدة لوحات من سيف وانلي» ولم تمضى سوى أربع ساعات على نطقه بتلك الكلمات حتى كنت أجلس مع سيف وانلى على نفس المائدة فى محل إيليت ؛ والتى نعودت الجلوس حولها مع سيف وانلى أو مع فتحى غانم . وكان سيف مبتهجا لأنه رسم فى أسبوع واحد أكثر من مائة لوحة لنساء ، وكأنه أراد استخراج كل النساء اللاتى مررن على حياته ليجسدهن بألوان الزيت وكان السبب هو ناقد مصرى هاجر من الإسكندرية إلى باريس وعاد فى زيارة قصيرة ليقول لسيف « أنت فنان عالمى بكل المقاييس لكنك لم ترسم لوحة واحدة لإمراة «. قال الناقد ذلك ثم سافر إلى الأقصر لسبعة ايام ، فرسم سيف لوحات لنساء من ذاكرته ، ولأنه إحترف صناعة ألوانه بنفسه ، كان قادرا على ترويض ألألوان الزيتيه بحيث تجف بعد ان يضعها فى اللوحة بوقت قليل . أخذت من تلك اللوحات مالا يقل عن عشر لوحات وعدت بها إلى القاهرة لتدور المطبعة الجديدة بها.
وعلى نفس المائدة عدت بعد خمسة أيام ومعى العدد الصادر يحمل لوحات الفنان الكبير . ورحنا نسمع بعضا من أغاريد اليونان يعزفها يونانى شاب فى الطابق العلوى من الإيليت، ومن نافذة الدور الثانى كان سيف يرنو إلى حى كوم الدكة حيث ولد وعاش سيد درويش وغنى « أنا هويت وإنتهيت وليه بقى لوم العزول « ولأسمع إلى كلمات سيف وانلى عن الشيخ سيد الذى كان بإستطاعته أن يؤلف اوبرات عالمية ولكن أخذته التجارب العاطفية إلى إدمان ثم رحيل من الأرض إلى السماوات . وحين يتكلم سيف فكلماته تتخللها فجوات من صمت يرقب فيه بعيون خياله الوانا جديدة ولوحات لم تولد بعد ، وهاهو ذا _ فى سقف خيالى _ يمسك بلوحة « الحصان الراقص « ويريها لناقده الأول مخالى هذا اليونانى المولود فى دمنهور والذى صمم كشكا خشبيا وضعه فى منتصف شارع صفية زغلول ؛ أمام واحد من أهم مطاعم الإسكندرية « سانتا لوتشيا «الذى لايدخله زبون دون حجز مسبق ودون ملابس رسمية. هنا قال مخالى لنفسه « الإنسان يدخل المطعم ليعيش حرا مع ما يحبه من طعام ، وأى مطعم ليس قاعة إستقبال دبلوماسى تضع الطعام امام الزبائن من اجل إصطياد معلومات أو إدعاء صداقة مع إخفاء سكين الكراهية خلف الإبتسامة . ولذلك إفتتح بهذا الكشك اهم مطعم يونانى لا فى الإسكندرية وحدها ، ولكن فى موانى البحر المتوسط جميعها ، فهو المطعم الذى لا يقدم الطعام فقط ولكن جدرانه مزينة بلوحات عالمية لكبار فنانى الكون ، وكل لوحة جديدة لسيف يكون مخالى هو أول من يراها ، فسيف يعلم أن عيون هذا اليونانى تملك رؤية ما خلف اللوحة من مشاعر ، ومخالى يعتبر سيف فنان من نوع نادر يشارك كنعان رسام اغلفة آخر ساعة قدرات غير مسبوقة فى ميلاد المدارس الفنية الكونية ، وكأنت عيون سيف تشارك عيون كنعان فى رؤية ما هو موجود من فنون فى كل الكون حتى لو لم يسافر أى منهما إلى باريس وقت أن عاش فيها موديليانى المتشاجر دائما مع بيكاسو والساخر دائما من سلفادور دالى المتشاجر أبدا مع شاعر السيريالية بيرتون ، الذى يعيش الم هجران الحبيبة ، بعد أن أغراها سليفادور دالى قائلة له» أنت نصف مجنون يا بيرتون اما سليفادور فجنونه هو توأم روح جنونى « . وتركته لتعيش ما بقى لها من عمر مع دالى . وعندما غادرت الحياة كان دالى قد صار من اثرى الأثرياء ؛ وكان فقدان الحبيبة قد أورثه غضبا لا يقدر على كتمانه ؛ فأعلن أنه سيوظف أى فتاة تشبه الحبيبة ، واجرى مسابقة ليكتشف شبيهاتها ، وعندما عثر على عدد من شبيهاتها وقف ناظرا للسماء صارخا « كنت ايها القدر قادرا على أن تاخذ اى جميلة تشبه حبيبتى ؛ فها أنا ذا اعيش مع شبيهات لكنى افتقد روحها . ومن المؤكد انك تعلم أيها القدر أنى ساحتفظ بشبيهاتها . وتختلط دموعه بإبتساماته ؛ لان اى واحدة منهن لن تشبه فى الروح تلك التى فجرت فى خياله كل اللوحات بعد لقياها . ومازالت روحها تهبها وجوده ، فهو من رآى فيها واهبة حياة . وكثيرا ما سخر من صديقه الشاعر آرجون الذى قام بتشخيص علاقة الرجل بالمرأة بأن اى منهما يهب معنى لحياة الحبيب ، فإذا كانت إلزا حبيبة ارجون تهبه الحياة فهو السائل بعد رحيلها أليست الوقاحة هى أن أعيش بعد الحبيبة ؟ إن الحياة بعد فقدان الحبيبة هى الوقاحة فى ذاتها «. ولما كان هذا هو رأى آرجون فى إستمرارية الحياة بعد رحيل الحبيبة ، فلتعبر الوقاحة عن نفسها بخيانة الحبيبة فى أى تجربة عشق تهمس له : أنت مازلت حيا . ومادام الموت قد سرق منك الحبيبة فأنا الحياة أهبك تجربة عشق جديدة ، اعتذر لك مقدما إن لم تتوافق مع التجربة الجديدة ، ولكنك فى كل الأحوال ستكتشف أنك مازلت تعيش .
..........................................
عشت كل تلك الأفكار مع نبأ لم يتأكد عن هدم مطعم الإيليت ، هذا الذى يتمتع بحيوية تلخيص لحظات الفرح والشجن التى تزدهم بها أرجاء موانى المتوسط وعواصم بلدانه. ولم يكن هناك مفر من السؤال عن مصير المكان الذى عشت فيه ذكريات لا حدود لها . أعلم أن كريستينا زوجة مخالى قد إقترحت عليه بيع المكان والعودة إلى اليونان حيث سافر الأبن ، ولكن مخالى رفض ، ولأنه كان يحبها بغير حدود ، ولانها أقامت فكرة السفر كحائط بينه وبينها ، فتذكر ان الإيليت مكتوب بإسمها ، فترك لها المكان ومضى يعمل فى المطاعم المتناثرة بالإسكندرية ،
وكثيرا ما لقيته ليقول لى « لو خرجت من الإسكندرية ،سأذهب إلى دمنهورحيث ولدت انا وولدت كريستينا ، وفى مطعم صغير اكلت انا وهى فرخة كاملة . وأنت تعلم أن القفص الصدرى لأى دجاجة تخرج منه عظمة ذات طرفين كل طرف عبارة عن عظمة رفيعة .وأمسكت أنا طرف عظمة الصدر وطلبت منها ان تمسك العظمة المقابلة ؛ وليجذب كل منا الطرف الذى يمسكه . ولما لم تنكسر العظمة فى يدى أو يدها علمت اننا سنعيش للأبد معا . قد نختلف لكن كل منا هو للأخر دوما .
ولم أجد انا كاتب السطور مفرا من سؤال أكثر من سكندرى عن مصير الإيليت ، وعلمت أن أكثر من محاولة جرت لبيع المحل . وإستطاع أحد السوريين إفتتاح جزء صغير يبيع منه الكنافة المصنوعة على الفحم . ولم يقع هدم للمحل حتى كتابة هذه السطور ، ليقفز سؤال إلى رأسى « ألا يوجد بالإسكندرية رجل أعمال قادر على إبقاء الإيليت على ما هو عليه كما حدث فى القاهرة عندما ابقى احدهم على مقهى ريش على حاله ، ولم يسمح بهدمه او إغلاقه ؟
لكن ما أحلم به قد لا يتحقق ، فالإسكندرية قلبت وجهها المبتسم الساحر المختزل لكل حضارة البحر المتوسط منذ أن نطق السادات لمليونير يتاجر فى الأخشاب « الإسكندرية فى رقبتك يا حاج رشاد «. والحاج رشاد هو من عثروا على شقيقه مقتولا فى أحد مخازن الخشب ، وكان أول المعزين ؛ هو مليونير آخر إسمه عتريس صاحب أسطول لسيارات النقل التى كانت تقطع المسافة من القاهرة ثم الأردن وصولا إلى العراق ، وجاءت شهرته بعد أن سارت زوجته «الحاجة فري» بسيارتها عكس الإتجاه وحاول أحد ضباط المرور إيقافها بالوقوف أمام السيارة ، فسارت لتحمله على مقدمة السيارة لمسافة كبيرة ، و إكتفى كبار المسئولين المباركيين بتقديم الإعتذار للضابط وحاولوا ترضية المليونير الذى كان يساعدهم فى توفير العملة الصعبة فى ذلك الزمن الوغد .
وكان للدولار فى تلك الأيام سيد لا ترد له كلمة، إسمه المشهور به «السميع دولار» وهو من بدا حياته كمنادى سيارات امام فندق سكندرى شهير ، وعبر أتوبيسات السياحة القادمة من الخارج كان يحصل على الدولار ليبيعه لكل من يطلبه ، ولانها تجارة مربحة ، سرعان ما ترك مهنة « منادى السيارات « وإفتتح مكتبا للإستيراد والتصدير . وكان أول العاملين فيه بمرتب مجز هو أحد رجال المرور الذين أذاقوه لسنوات عذابا لا يحتمل . وإحترف إستيراد ألوان الجبن المختلفة من فرنسا وسويسرا ، وكثيرا ما سأل من يعملون بمكتبه ومنهم مديرين سابقين بالقطاع العام ، سألهم عن قدرة الصين على صناعة الوان الجبن الفرنسى . وأرسل مكتبه كثيرا من الخطابات إلى كبار من يتعامل معهم فى الصين ؛ فإكتشف أنهم يصنعون كل الإلكترونيات والحقائب أما المواد الغذائية فهم لا يصنعوها ولا يتعاملون فيها . وكان عبد السميع دولار بعد الثراء هو الزوج الثانى لكيداهم التى صار إسمها « كيكي» . وهى إبنة المسحراتى التى كانت تسكن فى بيت لم يكتمل بناؤه ، وكان والدها يحلم أن يكون بواب العمارة عندما يكتمل البناء . وكان زواجها الأول من « سكر « القهوجى الذى لم يتفق معها لعلو صوتها وكثرة طلباتها فكان الطلاق لياتى الزواج الثانى من عبد السميع دولار ، الذى نقل « كيداهم « ووالدها المسحراتى من تلك الحالة الصعبة إلى السكن في» كفر عبده « ؛ حيث يعيش أثرى أثرياء الثغر . وأحضر عبد السميع دولار لكيداهم عددا من المدرسات لتتعلم الكتابة والقراءة والحديث باللغة الفرنسية .
وشاءت الظروف أن يتناول عبد السميع دولار عشاء عند أحد اثرياء المدينة الجدد الساكن فى قصر له باب يشبه باب زويلة القاهرى . وثال الباب إعجابه فقرر أن يجعل لقصره بابا يشبهه . فزار الفنان الذى صنع الباب وهو الراحل الموهوب محمد رزق الطارق على النحاسى الأشهر فى بر المحروسة . وسافر عبد السميع دولار من الإسكندرية إلى القاهرة للقياه ، وعرض عليه حلمه فى أن يصنع له بابا لقصره تماما كباب قصر الثرى المشهور ، ضحك محمد رزق رافضا ، لأن باب زويله المصغر كلفه شهورا لدراسة التصميم؛ فباب زويلة الضخم يتحرك على كرة ضخمة أبقته قرونا ولم يفسد. قال محمد رزق « لن أتحمل إرهاقا مثل الأرهاق الذى سبق وتحملته ؛ صحيح أنى أخذت قرابة الثلاثمائة ألف جنيه لصناعة مثل ذلك الباب ؛ أما الأن فأنا مريض بالسكر وكثير الغضب اثناء العمل واريد التفرغ فيما بقى لى من عمر فى نحت لوحات لنساء خيالى ، فأنا أطرق أجساد النساء ، لأن كل جسد أنثوى يشبه آلة الكمان . وفى خيالى عشرات من منحوتات لنساء خيالى وأراهن مطروقات على النحاس «. ولم يعش محمد رزق كثيرا من بعد رفضه هذا؛ فقد إستطاع مرض السكر ان يصبيه بأسباب عديدة للوفاة . وعندما وصل خبر وفاة الفنان الكبير محمد رزق لعبد السميع دولار ترحم عليه ليتذكر رفضه لصناعة باب زويلة جديد . وأقسم لحظتها مؤكدا لنفسه من الفنانين فئة ترفض الحياة بالعقل . ويعيشون مع امخاخ خفيفة لا تهدف إلى الربح .
واثناء حضورى معرضا للفنانين الشباب بالإسكندرية دخل عبد السميع دولار الذى أعرفه وأعرف زوجته كيداهم ، لأنى كنت أسكن فى شارع بوالينو وهو شارع شعبى عشت فيه لشهور بعد وفاة ابي؛ثم رحلت إلى شارع الطبقة الوسطى ، شارع الرصافة ؛ وبحكم ميلادى بالإسكندرية كنت أفضل فنحان قهوة ما بعد الظهر فى الفندق الذى كان عبد السميع دولار دولار يعمل كمنادى سيارات أمامه . وبحكم معرفتى بالكثير من أحوال المدينة التى أحببتها وشهدت العشرين عاما الأولى من عمرى صارت أخبارها تهمنى ، وأتابعها فى كل تفاصيلها . ولذلك لم اندهش لصعود عبد السميع دولار على السلم الإجتماعى للمدينة . وضحكت كثيرا عندما علمت برفض نادى سبورتنج لعضويته رغم محاولته تقديم تبرع ضخم للنادى ، وظل الرفض قائما لسنوات . وتوافق هذا الرفض من نادى سبورتنج مع رفض الفنان محمد رزق لصناعة باب قصره . ولم اندهش حين رأيت عبد السميع دولار للمرة الثانية وهو يتحدث عن جنون الفنانين مع مرافق له أثناء إفتتاح بينالى الإسكندرية 2004 ، وهو البينالى الذى عرض فيه احد فنانى اسبانيا عددا من البالونات المنفوخة ، وتم تعليق البالونات على أعمدة خشبية بسقف الغرفة ، هنا قال عبد السميع دولار « يعنى أشترى بألف جنيه بالونات واعلقها فى السقف ويقولوا ده فن ؟ لا ياعم يفتح الله . ده شغل مجانين» وكان من يتحدث مع يقول له : ده فن جديد بيقولوا عليه «تجهيز فى الفراغ «، هنا أقسم عبد السميع دولار بالطلاق بأن هذا دليل على أن كل فنان فى رأسه سلك كهرباء مقطوع .
ومضي يحكى عن لوحات لسيف وانلى وكيف إشتراها بالاف بسيطة من بائع انتيكات بحى العطارين . ولم أشأ التدخل فى الحوار لمعرفتى ان لوحات سيف وانلى هى من اكثر اللوحات التى تعرضت للتزيف . وهمست لنفسى « لوحات تم تعليقها فى بيت يملكه عبد السميع دولار وتسير بين حجراته زوجته كيداهم ذات الإسم الجديد « مدام كيكى « فلماذا اخبره بان اللوحات قد تكون مزورة ؛ كما تم تزوير مدينة ميلادى بجنون البناء والهدد ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.