أخيرا، وبعد طول انتظار، دشن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من عاصمة المملكة العربية السعودية الرياض عودة الولاياتالمتحدة الجديدة للمنطقة بعد فترة انسحاب عمدت إليها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، مما ساهم في فقدان أمريكا دورها المؤثر في أزماتها المشتعلة، خاصة الأزمة السورية. وكشف ترامب من الرياض ثلاث أولويات لإدارته في سوريا تعمل عليها بالتوازي، وهي : أولا : فرض الهدوء للتفرغ ل إبادة» تنظيم داعش الإرهابي نهائيا، حتى الإعلان عن سقوط الرقة عاصمة التنظيم ومعها رأس زعيمه أبو بكر البغدادي، من ثم تحقيق الإنجاز الأهم لإدارة ترامب وسط الانتكاسات الداخلية، وموازاة أهم إنجازات أوباما بإعلانه مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة. ثانيا: عزل إيران وميليشياتها المختلفة، وقطع الطريق تماما على حلمها في ممر بري مفتوح من العراقلسوريا إلى لبنان. ثالثا: الوصول إلى صياغة ملامح «سوريا المستقبل» بدون رئيسها بشار الأسد، من خلال دفعه إلى التنحي أو عدم إعلان ترشحه لفترة رئاسية جديدة وفقا للدستور السورى الجديد، أو البحث في طرق إزاحته عسكريا وفقا لخطة لم تكتمل ملامحها بعد. تلك الأولويات التي رسمتها فعليا الخطوات الأمريكية مؤخرا في سوريا، حيث الترحيب الأمريكي باتفاق مناطق «تخفيف التصعيد» المعلن عنه في الآستانة، مع التحفظ على الدور الإيراني ك»ضامن» للاتفاق، ثم إعلان جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي خطة «إبادة داعش»، حيث إطلاق الرئيس ترامب يد القادة العسكريين في اتخاذ القرارات العسكرية على الأرض، مع استمرار الدعم والتنسيق العسكرى مع ميليشات «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الأغلبية الكردية في تحرير الرقة، ومن قبلهما القصف الصاروخي الأمريكي لقاعدة «الشعيرا» الجوية السورية، وما أعقبها من ضربة جوية أخرى لقافلة عسكرية حملت وعلى ما يبدو تمهيدا للزيارة، لكنها جاءت في الوقت نفسه تحت مبررات أخرى تفاديا لسوء فهم روسيا، حيث إعلان أن الضربة جاءت تحت غطاء التحالف الدولي ضد داعش، وأنها استهدفت ميليشيات إيرانية، بل إن القافلة تقدمت لمنطقة حذرت موسكو سابقا من التقدم فيها. فى المقابل، فإن روسيا لا ترى تناقضا كبيرا بين رؤيتها للأزمة والرؤية الأمريكية، بل على العكس تماما، فهي ربما مهدت لها، حيث إعلان موسكو منذ بدء تدخلها العسكري في الأزمة سبتمبر 2015 أن الأولوية هي القضاء على داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى المستترة تحت غطاء «المعارضة المعتدلة» الذي ابتدعته إدارة أوباما، من ثم كان الهدف الأول لاتفاق «مناطق تخفيف التصعيد» هو فصل تلك التنظيمات الإرهابية وتحديد مناطق تواجدها، الأمر الذي طالما نادت به. أما عن الموقف من الأسد، فقد أكدت روسيا مرارا أنها لا تدعم أشخاصا في سوريا، بل تدافع عن مصالحها في المقام الأول، وأن مصير الأسد يقرره شعبه، في الوقت الذي ظهر فيه «الخلاف الروسي - الإيراني» أكثر من مرة حول هذه النقطة. أما الخلاف الرئيسي مع أمريكا في هذا التوقيت بالذات هو استمرار عدم التنسيق العسكري بين الطرفين، رغم ما وضح مؤخرا من تقارب فعلي بينهما بعد الاتصال الهاتفي الذي أجراه ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين مطلع مايو الجاري، والذي أعقبه الإعلان عن اتفاق «مناطق تخفيف التصعيد»، بالتزامن مع الزيارة الأولى لريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي إلى موسكو 11أبريل الماضي، ثم زيارة سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي ولقائه تيلرسون في آلاسكا، ثم لقائه ترامب في البيت الأبيض 10 مايو، مما أعاد الأحاديث مجددا حول «الصفقة» المنتظرة بين البلدين، التي سرعان ما بددتها عاصفة «تسريب» المعلومات حول داعش، التي فجرها الإعلام الأمريكي. في السياق نفسه، فإن الطرفين الآخرين الفاعلين في الأزمة على الأرض تركياوإيران ما زالا متمسكان بأحلامها التوسعية والطائفية، من ثم فإن إضفاء الهدوء على المشهد لا يعجبهما كثيرا، إلا أن التصعيد أيضا ليس في صالحهما هذه الفترة، فمن ناحية، أعلنت تركيا عن تشكيل ميليشيا جديدة تحت ذات المسمى المشبوه «الجيش الحر»، بعد خسائرها البشرية الفادحة في عملية غزوها العسكري للشمال السوري المسماة ب»درع الفرات»، من ثم إعلانها المفاجيء انتهائها دون أى نجاحات، مع التحذير الأمريكى من الاقتراب من المناطق الكردية، وهو ما تبعه «طقات حنك» معتادة - بالتعبير الشامي - من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المنتشي بالصلاحيات الجديدة. أما بالنسبة لإيران، ومع فوز الرئيس حسن روحاني بفترة رئاسية جديدة، فإنه وفي خضم المعركة الانتخابية الساخنة في الداخل، التزمت طهران الهدوء في الخارج، من ثم مرور إعلان انسحاب «حزب الله» وتسليم الحدود السورية - اللبنانية إلى الجيش اللبناني، وما أعقبه من عدم التعليق على الضربة الجوية الأمريكية الأخيرة التي استهدفت ميليشيا تابعة لها، انتظارا لما ستسفر عنه الأيام المقبلة، بعد رسائل ترامب الواضحة من الرياض. وفي الداخل، ومع الانتكاسات المتتالية للتنظيمات المسلحة في حلب وحمص ودمشق، أصبح الجيش السوي هو القوة النظامية الوحيدة التى تتحرك على الأرض، مما وضح تأثيره مجددا على مجريات جنيف 6 التي خرجت وكالعادة أيضا دون أي نتائج تذكر، سوى التأكيد على فشل وتفكك قوى المعارضة السياسية بمنصاتها الثلاث : الرياض - موسكو - القاهرة، ثم إعلان انسحاب ممثلي الفصائل المسلحة، مما دعا ستافان دى ميستورا مبعوث الأممالمتحدة لحل الأزمة إلى إعلان تأجيل مناقشة «السلال الأربع» أو بالأدق الثلاث : الحكم والدستور والانتخابات, إلى جولة مقبلة ربما تعقد في يونيو القادم، مع إعلان عن تشكيل لجنة خبراء لمناقشة مسألة صياغة الدستور السوري الجديد، والتي أكد بشار الجعفري رئيس وفد الحكومة السورية أنها «مضيعة للوقت»، ولن تخرج بنتائج. هكذا يبدو المشهد السوري، ووفقا للأولويات التي حددها ترامب للسياسة الأمريكية في سوريا، وفي ظل التوافق الروسي الواضح، مع واحتفاظ الأطراف المختلفة بمكاسبه على الأرض الفترة الماضية، مهيئا لتحقيق ترامب نصره المنتظر، من ثم انتظار لحظة توزيع الأدوار الجديدة في سوريا المستقبل.