فى الوقت الذى حملت وزارة الزراعة لوزارة الرى مسئولية عدم تدبير المياه اللازمة لزراعة مشروع المليون ونصف مليون فدان، قدمت الوزارة نفسها لمجلس الوزراء خطة عمل تتكلف 300 مليون جنيه من أجل التوسع فى أعداد الثروة الحيوانية بنحو مليون رأس وأيضا مضاعفة إنتاج الدواجن إلى 300 مليون طائر سنويا بدلا من 150 مليونا حاليا أى زيادة مقدارها نحو 100 ألف طن من الدواجن سنويا. ومن الأمور الثابتة زراعيا طبقا لمنظمة الأغذية والزراعة والبنك الدولى أن تربية الرأس الواحد من الماشية فى المناطق الحارة يستهلك نحو خمسة آلاف م3 من المياه أى مايكفى لرى فدان من الأرض الزراعية لعام كامل وبالتالى فإن تربية المليون رأس الجديدة بمشروع البتلو سوف يستهلك مياه تكفى لرى مليون فدان فأين العجز المائى الذى تدعيه وزارة الزراعة لعرقلة مشروع إستصلاح المليون ونصف مليون فدان ولو لمرحلته الأولى لمساحة نصف مليون فدان فقط!!. الأمر الثانى أن ثروتنا الحيوانية الضئيلة التى لا تزيد على ثمانية مليون رأس من الأبقار والجاموس هى السبب الرئيسى فى تربع مصر على قائمة الدول الأكبر إستيرادا للقمح فى العالم لأننا نزرع أكثر من نصف أراضينا بالبرسيم كعلف أخضر شتوى لتغذية هذه المواشى ولا نجد المساحة الكافية لزراعة القمح، بالإضافة إلى زراعة مثلها من الدراوة أى عيدان الذرة التى تقطع خضراء لتكون علفا صيفيا. فالدول التى تمتلك ثروة حيوانية كبيرة تعتمد على المراعى الطبيعية التى تنمو على الهطول المطرى مثل إثيوبيا والسودان وموريتانيا وتنزانيا وأوغندا وجنوب السودان وأوروبا والأرجنتين والبرازيل لاتكلفها شيئا ولا أحد يربى ثروة حيوانية تعتمد على زراعة الأعلاف المكلفة إلا مصر فليس لمصر أى ميزة نسبية فى تربية المواشي. يضاف إلى ذلك أن إنتاج الكيلوجرام من لحوم الأبقار يستهلك خمسة عشر مترا مكعبا من المياه، فإذا تصورنا أن سعر الكيلوجرام من لحوم الأبقار يخرج من المزرعة فى مصر بسعر تسعين جنيها فإن العائد من المتر المكعب من المياه فى تربية العجول لا يزيد على ستة جنيهات (90 جنيها/15 م3) بينما لاينبغى أن يقل العائد عن عشرة إلى عشرين جنيها لأن تحلية مياه البحر تكلفنا مابين 50 إلى 68 سنتا أمريكيا أى متوسط عشرة جنيهات فكيف يكون إنتاجنا من اللحوم لايتمتع بأى جدوى اقتصادية فى بلد فقير مائيا ثم نتوسع فيه؟!والأمر يتطلب مراجعة لأن رغيف القمح وطبق الفول والعدس ومحاصيل الزيوت والسكر سوف تكون أجدى وأهم اقتصاديا من تربية المواشى تحت مناخنا الحار الجاف الذى يدفع بالتمثيل الغذائى فى المواشى نحو الحرق أكثر من بناء اللحم بينما يحدث العكس فى البلدان الباردة. وإذا ما انتقلنا إلى مضاعفة إنتاجنا من الدواجن فالأرقام المعتمدة دوليا تشير إلى أن إنتاج الكيلوجرام من لحوم الدواجن يستهلك ستة م3 من المياه، وإذا ما أفترضنا أن سعر كيلوجرام الدواجن يخرج من المزرعة بسعر يتراوح مابين 20 إلى 30 جنيها فيكون العائد من م3 المياه فى تربية الدواجن يتراوح مابين 3.5 إلى 5 جنيهات فقط وأن إنتاج مائة ألف طن الإضافية التى أعلنت عنها وزارة الزراعة سوف تستهلك ستة مليار مترا مكعب من المياه أى مايكفى لرى مليون وربع مليون فدان بينما تدعى الوزارة نقص مياه الري!؟. هذا الأمر يوضح أن مشروعى البتلو لتربية مليون رأس جديدة بالإضافة إلى إنتاج 150 مليون دجاجة الجديدة سوف يكبد مصر 11 مليارا م3 بمتوسط عائد للمياه لا يزيد عن خمسة جنيهات، بينما هذه المياه إذا توفرت تكفى لزراعة 2.2 مليون فدان فى أراضى الإستصلاح بمعدل خمسة آلاف متر مكعب للفدان وهى الكمية التى توصى بها منظمة الفاو والبنك الدولى لرى الفدان فى المناطق الحارة الجافة مثل مصر حتى لا تتحول الأراضى إلى التمليح والبوار بسبب التبخير والأملاح. يضاف إلى ذلك إلى أن التوسع فى تربية المليون رأس من العجول تعنى التوسع أيضا فى زراعة البرسيم على حساب القمح والفول والعدس وبنجر السكر شتاء والتوسع صيفا فى زراعة الدراوة على حساب الذرة الصفراء أو عباد الشمس وفول الصويا. هذا الأمر يوضح أيضا التناقضات فى سياسات وزارتى الرى والزراعة والتى تعترض على زراعة الأرز وتطلب تخفيض مساحات زراعته سنويا رغم أنه محصول استصلاح يحافظ على أراضى الدلتا من أملاح البحر المتوسط ويمنع تقدم البحر على حساب بوار أراضينا بالإضافة إلى أن العائد الاقتصادى من المياه فى زراعة الأرز يزيد على عشرة جنيهات أى ضعف العائد من إستخدام المياه فى تربية العجول أو الدواجن كما أنه غذاء رئيسى للشعب (يستهلك فدان الأرز أربعة ألاف م3 من المياه ويعطى محصولا 4 أطنان ويباع الكيلوجرام بسعر عشرة جنيهات وسيرتفع السعر فى الفترات القادمة إذا استمرت هذه السياسات غير الواعية لاقتصاديات أستخدمات المياه). لا شك أن مصر تعانى شحا حقيقيا فى المياه لعدد سكان بلغ 93 مليون نسمة طبقا للساعة السكانية للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء تتطلب أن تكون مواردنا المائية 93 مليار مترا مكعب من المياه بنصيب ألف متر مكعب للفرد ولكننا لا نمتلك إلا 62 مليارا فقط منها 55.5 من مياه النيل ونستخدم نحو 5.5 رسميا من المياه الجوفية ونحو 1.3 مليار من الأمطار التى تسقط فوق أراضى الدلتا فقط ونستفيد منها فى الري، وبذلك يكون العجز الفعلى نحو 31 مليارا متر مكعب من المياه سنويا نتغلب عليها بإعادة استخدام نحو 16 مليار مترا مكعبا من مياه الصرف الزراعى والصحى والصناعى (المعالجة جزئيا) لنخفض العجز إلى 15 مليار متر مكعب سنويا وقد تعايشنا معه. هذا الأمر يعنى حتمية تعظيم الإستفادة من مواردنا المائية القليلة المتاحة وتعظيم العائد الإقتصادى من المياه والذى يبلغ 50 جنيها فى الصناعة و 500 جنيه للمتر المكعب فى قطاع السياحة والفندقة ونحن لا نطلب إلا أن يصل العائد فى الزراعة إلى 20 30 جنيها فقط لكل متر مكعب من المياه. ولا بأس أيضا من السماح بزراعة الأراضى الجديدة التى تمتلك مخزونا من المياه يكفيها لخمسين سنة فقط فلا أحد يتوقع مستقبل نقل مياه الأنهار خارج أحواضها بعد إعلان دولة الإمارات لنقل جزء من مياه نهر السند إلى أراضيها بما سيفتح هذا الباب مستقبلا، بالإضافة إلى أن الأراضى الواقعة حاليا فى جميع الطرق الصحراوية لا تمتلك مخزونا من المياه إلا لخمسين سنة فقط ومع ذلك فأصحابها أكثر من يهاجمون مشروع المليون فدان!! هناك أمر شديد الأهمية ينبغى مراعاته فزراعة الفدان فى أراضى الصعيد تستهلك من المياه مايكفى لرى من اثنين إلى ثلاثة أفدنة فى الشمال ولذلك تركزت جميع مشروعات الاستصلاح الناجحة شمالا حيث المناخ الممطر شتاء والمعتدل صيفا وقربها من موانى التصدير مثل النوبارية والصالحية ومديرية التحرير ووادى الملاك ورمسيس ووادى النطرون وبالتالى فالأمر يتطلب إعادة النظر وأن تكون الأولوية لاستصلاح وإستزراع أراضى الساحل الشمالى الغربى فى المنطقة من غرب الإسكندرية وحتى مطروح والسلوم وبها نحو 2.5 مليون فدان صالحة للزراعة وسبق زراعتها من قبل وتتمتع بأمطار شتوية غزيرة توفر مياه الرى ومناخ صيفى معتدل وبالمثل باقى حواف الدلتا والزمام الصحراوى للمحافظات. هذا الأمر لا يعنى إهمال الصعيد ولكن يعنى أن نخصص الصعيد للصناعة التى تستوعب قدرا أكبر من العمالة وتعطى دخلا أكبر للأفراد حيث يتراوح دخل العامل فى قطاع الصناعة مابين ستة إلى خمسة عشر ضعفا لدخل العامل فى القطاع الزراعى وبالتالى فالصعيد بفقراؤه وطرده لإبنائه للعمل فى الشمال يتطلب مشروعات كثيفة العمالة عالية الدخل تقصى على البطالة والفقر وهناك من المواد الخام الطبيعية مايسمح بالتوسع فى صناعات الأسمدة والأسمنت والسيراميك والحديد والصلب والألمونيوم وغيرها. أيضا ينبغى أن نذكر إلى أن أراضى الإستصلاح ليست لزراعة الحاصلات منخفضة العائد بسبب التكلفة العالية للزراعة فى الصحراء وهى ليست مثل أراضى الوادى والدلتا التى تحصل على المياه مجانا ولكن المياه بها مكلفة والأمر يحتاج إلى التوجه إلى زراعات التصدير والأورجانيك وزهور القطف التى تسيطر عليها حاليا إثيوبيا بعد أن كانت لمصر تجارب ناجحة جدا فيها فى الثمانينات والتسعينات ونقل زراعات البطاطس والبصل التى توطنت أمراضها فى الأراضى القديمة لتستعيد عرش الصادرات فأوروبا تفتح أبوابها لاستيراد أى كميات أورجانيك وبالمثل المنطقة العربية وروسيا واليابان، بشعار محصول أكبر من مياه أقل. يستهلك قطاع الزراعة نحو 85% من مواردنا المائية (57 مليار م3 من المياه طبقا للفاو) ويساهم فى الناتج المحلى حاليا بنحو 12% فقط بينما يستهلك القطاع الصناعى نحو 3 مليارات متر مكعب فقط ولكنه يساهم بنحو 36% من الناتج القومى المحلي، ولنرفع شعار أن الشمال للزراعة والجنوب للصناعة. كلية الزراعة جامعة القاهرة لمزيد من مقالات د.نادر نور الدين محمد;