من الأمور المستقرة فى أدبيات مفهوم الدور، فإن العوامل الداخلية قد يكون لها من التأثير على بلورة دور اقليمى أو دولى لأى دولة، لها الاستعداد والطموح لممارسته.. ولكن فى المقابل فإن المهارة السياسية للدولة قد يكون لها التأثير الواضح على تحسين الأوضاع الداخلية للدولة، بما يضمن تزايد شعبية السلطة الحاكمة، ومن ثم فإن العلاقة التبادلية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية (اقليمية أو دولية)، تتوقف على المهارة السياسية التى تبلور الموقف السياسى السليم فى الوقت المناسب، فتزداد فعالية وتأثير الدولة فى محيطها الاقليمى أولا، ثم الدولى ثانيا، وذلك محكوم برؤية شاملة بعضها معلن بما يضعف مقاومته من الآخرين، وبعضها غير معلن ويفهمه الآخرون من خلال بعض التصرفات التى تحمل رسائل ولو استفدنا من تجارب الآخرين، نموذج الدولة الروسية وريثة الدولة العظمى الاتحاد السوفيتى، الذى تفكك بنهاية عام 1991م، فى تطور ممارسة دورها الاقليمى والدولى، حتى أصبح بعد غياب نحو (20) عاما (1991 2011م)، ذا تأثير وأثبت منافسته للدور الأمريكى فى المنطقة العربية والشرق أوسطية بل وفى أوروبا والعالم، ولعل اختيار الأزمة السورية، وبعدها الأزمة الأوكرانية خير دليل على استعادة الدور الروسى العالمى مرة أخرى، مؤكدا أن روسيا أصبحت قطبا دوليا منافسا للولايات المتحدة وأوروبا، وسندها فى ذلك دولة الصين العظمى أيضا، وقد يفوقها تأثيرا وانتشارا بل وفاعلية، الآن. وفى هذا السياق فإن الملاحظ أن مصر تحاول أن تستعيد دورها الاقليمى فى هدوء، بعد غياب (40) سنة، كان دورا تابعا، بينما الآن فى طريق «الاستقلال النشيط». وهذا الدور يتشكل وتستعاد عافيته وسط الاضطراب الحاد الذى يشهده الاقليم، وملامح ذلك فيما يلى: 1 تفادى الخصومات مع دول عربية وإقليمية فاعلة، وتجنب صدامات محتملة قد توقع بمصر فى مجابهات تؤدى إلى استنزاف قدراتها فيما لا يحقق فائدة لمصر، وبما يؤثر على أن تظل قدرة مصر ردعية أكثر منها أى احتمال آخر. 2 دعم أى تحالفات اقليمية أو دولية، تعلن بوضوح أنها ضد الإرهاب فى المنطقة، دون أن تتورط مباشرة بجيشها فى خارج الحدود، باستثناء الدفاع عن باب المندب حماية لقناة السويس باعتباره ممرا دوليا، وبما لا يشكل أى إشارة لعدوان على اليمن الشقيق، وفى هذا الخيار حماية لمصالح مصر الحيوية والعليا.. فقناة السويس تدر عائدا سنويا قدره (5) مليارات دولار، وتعتبر إحدى ركائز دعم الاقتصاد الوطنى. 3 الإصرار المصرى على رؤية ما يحدث فى سوريا وليبيا والعراق، على أنه مجابهة ضد الإرهاب، ومصر تساند فى هذه المعركة على هذه الرؤية، فضلا عن خصوصية الرؤية المصرية فى سوريا بضرورة الحل السلمى والحفاظ على وحدة الدولة وأن الرئيس بشار الأسد ليس هو المشكلة، ومن هنا جاء التوازن المصرى فى عدم إدانة الضربة العسكرية الأمريكية ضد مطار عسكرى فى سوريا (الشعيرات) وسط قبول بعض الدول لهذه الضربة، وما كان ينبغى هذا التوازن، بل كان الوضوح بالإدانة هو أفضل الخيارات فى تقديرى. 4 التحرك المصرى المستقل فى الخليج العربى (الإماراتالكويتالبحرين) واتصالات مكثفة معلنة وغير معلنة مع سلطنة عمان، هى إثبات للوجود المصرى فى هذه المنطقة، وضغط على أعصاب دول شرق أوسطية. وهذا التحرك ينطلق من فكرة الردع لا الهجوم، من أجل التأسيس لعلاقات قادمة ربما تكون مع إيران، ومن ثم فإن زيارات الرئيس السيسى لعدد من الدول مؤخرا تحقق وتؤكد ذلك، وهى تحركات إيجابية تدعم الصعود التدريجى فى الدور المصرى. وفى مقابل ذلك فإن غياب مصر عن إدارة الأزمة السورية، وتركها لآخرين، يمثل ظاهرة سلبية، كما أن الاصرار المصرى على إدارة الأزمة الليبية يمثل ظاهرة إيجابية، ولعل التصاعد التدريجى فى الدور المصرى فى إطار الاستيعاب الكامل والمهارة السياسية، قد يقود إلى الحضور المصرى فى كل أزمات الاقليم بصورة نشيطة وفى ضوء مفهوم الاستقلال الوطنى على ركيزة الاستقرار الداخلى، وهو حجر الزاوية فى الدور القيادى الحقيقى القادم لمصر. لمزيد من مقالات د.جمال زهران