حين نسعى لتجديد الخطاب الدينى نسعى لتحقيق المصالحة بين العقائد والقيم الدينية والأخلاقية التى نؤمن بها وبين قوانين التطور التى عرفنا أنها تفرض نفسها فى كل المجتمعات البشرية. وبعبارة مختصرة تجديد الخطاب الدينى مدخل ضرورى أو شرط لتجديد الحياة. الحياة لا تجدد نفسها إلا بالأحياء الذين يعيشونها ويمارسون فيها ما يمارسونه من تجارب ويواجهون ما يواجهونه من تحديات يجتهدون فى التغلب عليها ويستخلصون منها الدروس ويستفيدون بها فيما يلاقونه فى مستقبلهم من تجارب وتحديات جديدة يتغلبون عليها ويخرجون من عصر إلى عصر يعرفون فيه أنفسهم أكثر ويعرفون ما يحيط بهم ويؤثر فى حياتهم ايجابا وسلبا من حقائق الوجود وظواهر الطبيعة وتحولات المجتمع، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بقدر كبير من الفضول والرغبة فى المعرفة والاكتشاف، والقدرة على متابعة الظواهر وعلى الربط بين الأسباب والنتائج، والايمان بأن حياة الانسان فى كل مجالاتها تتأثر بما يجد فيها وتتطور به وتتغير، تستوى فى ذلك حياتنا العملية وحياتنا العقلية. نظمنا السياسية وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية. معرفتنا للطبيعة ومعرفتنا لأنفسنا. خطابنا السياسى وخطابنا الديني. وكما أن حركتنا تختل وتتعثر وتتوقف وتتخلف لو مارسنا حياتنا السياسية فى هذا الزمن الذى نعيش فيه بالعقلية التى مارس بها آباؤنا وأجدادنا حياتهم فى العصور الوسطي، فهى تختل كذلك وتتعثر وتتوقف وتتخلف، لو مارسنا حياتنا الدينية بالعقلية التى مارس بها آباؤنا وأجدادنا شعائرهم الدينية فى العصور الوسطي، فلم نحسب حساب المعارف الجديدة التى حصلناها، ولم نميز بين المبادئ والتطبيقات وبين الوسائل والغايات. نظمنا السياسية فى العصور الوسطى وطاقاتنا وخبراتنا فيها وأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية كانت تربة خصبة للعبودية والجهل والخرافة والطغيان. وقد تطورت حياتنا فى هذه العصور الحديثة ونمت طاقاتنا وتغيرت أوضاعنا فلم يعد مفهوما ولا منطقيا ولا مقبولا ولا ممكنا أن تتكرر فى حياتنا، وأن تقوم من جديد هذه، وهذه النظم البائدة وهذه القوانين، وهذه الممارسات البربرية التى عرفتها العصور الوسطي، اللهم إلا فى عروض مسرحية تقدمها الآن جماعات الاسلام السياسي! وكما أن قوانين التطور تفرض نفسها فى السياسية فتحل الدول الوطنية محل الدول الدينية، ويتحرر العبيد، وتحصل المرأة على حقوقها، وينتصر العقل على الخرافة والعلم على الجهل، وتحل الديمقراطية محل الطغيان، فقوانين التطور تفرض نفسها أيضا فى الدين فتكشف عما فى الخطاب الدينى التقليدى من صور الوهم والخوف من المجهول، والعجز عن مسايرة الحياة، وتفسح المجال لخطاب دينى جديد يتصالح مع هذه القوانين ولا يتعارض معها، وإلا أصبحت حياتنا كما عهدناها خلال القرنين الأخيرين. نحن ممزقون بين واقع عملى يتغير دون أن يتطور ومعنى هذه العبارة أن تغيره فعل لا ثقافة وتدين شكلى لا روح فيه، لأن الروح لا تكون إلا فى الجسد الحي. ولكى يصبح التدين حياة فاعلة مؤثرة فلابد من خطاب دينى جديد يتواصل مع حياتنا الجديدة ويتجاوب معها، ويؤثر فيها ويتأثر بها، وهو عندنا شرط غائب. فالخطاب الذى ندين به اليوم قادم إلينا من عصور سلفت. وهو إذن خطاب مستهلك. شكل لا روح فيه. أزياء مسرحية، وعبارات محفوظة. رسوم وشعارات تغطى الواقع ولا تسكنه ولا تحركه ولا تكشف عما فيه من ثغرات ولا تدفعه لمراجعة نفسه وإصلاح عيوبه. وفى هذا المناخ تتراجع سلطة الضمير ويضعف الوازع الأخلاقى ويصبح الخطاب الدينى مفارقا للدين ومعارضا له، فضلا عن مفارقته لقوانين التطور ومعارضته لها. وهذا أمر طبيعي. فالإنسان هو صانع التطور، والانسان هو الغاية التى تقصدها الشرائع الدينية حين تهديه للحق والخير وتساعده على أن يتطور ويتقدم والفرق بين قوانين التطور والشرائع الدينية أن هذه علم منزل، أما الأولى فمعرفة بالعقل الذى منحنا الله إياه. أريد أن أقول إن تجديد الخطاب الدينى ليس فقط حاجة حيوية، وليس فقط شرطا للتقدم، وإنما هو إلى جانب هذا واجب أخلاقى وأصل من أصول الدين. حين ننادى فى هذه الأيام بفصل الدين عن الدولة نكون أقرب إلى الدين من الذين يخلطون بينهما. الفصل يحرر الدين من أسر السلطة، ويرده إلى بيته الدافىء وهو الانسان، ويعصمه من أن يصبح سلعة أو تجارة أو ستارة يحتمى بها الكذب، ويستشرى الفساد ويعم النفاق. وفصل الدين عن الدولة يحرر الدولة من العمل ضد وظيفتها. لأن وظيفة الدولة هى أن تجمع بين كل من ينتمون لها على اختلاف أصولهم وعقائدهم ومذاهبهم، وتوحد صفوفهم، وتضمن لهم أمنهم وحريتهم، وتساعدهم على أن يتضامنوا ويتقدموا. وهذا ما تقوم به الدولة الوطنية التى تتأسس على العقد الاجتماعى الذى يصبح به الأفراد جماعة أو أمة تتفق فيما بينها على الانضواء تحت لواء يجمعها وسلطة تمثلها وتكون هى مصدرها، فالأمة فى الدولة الوطنية هى مصدر كل السلطات. وعلى العكس من كل هذه الشروط تكون الدولة الدينية التى تقوم على رابطة الدين وحدها، أما الدولة الوطنية فتقوم على المواطنة التى تتسع للتعدد وهو أساس للحرية التى لا تعرفها الدولة الدينية، لأن الحاكم فيها لا يمثل المواطنين وإنما يمثل الله كما يزعم وينوب عنه فى الحكم. ولأن الدولة الدينية لا تعترف إلا بدين واحد فهى فى حرب متصلة مشتعلة أو غير مشتعلة مع أصحاب الديانات الأخري. وهذه ليست مجرد تنبؤات تصدق أو لا تصدق، وإنما هى وقائع فعلية نعيشها هل تكون هذه الدولة الدينية بهذا الوصف وطنا آمنا للدين؟ وهل يزدهر الدين فى مثل هذه الدولة ويصبح حضارة تتحاور مع غيرها؟ الجواب هو النفي. والدولة الوطنية بنظامها الديمقراطى وضمانها لحقوق الانسان هى الوطن الآمن للدين. لكن هذا الجواب لا يتفق مع الخطاب الدينى الموروث من ثقافة العصور الوسطى ونظمها البائدة. ونحن إذن فى أشد الحاجة لخطاب دينى جديد. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى