كيف كان يعيش الناس قبل ظهور الدولة والنظام الاجتماعى؟ هذا السؤال طرحه المفكرون السياسيون مع بداية العصر الحديث، وهو يفترض أساساً أن اجتماع البشر مر بمرحلتين: مرحلة لم تكن فيها دولة، ومرحلة أخرى تتسم بظهور الدولة والقانون والنظام الاجتماعى. قبل العصر الحديث كان هناك مفكرون سياسيون لكنهم لم يهتموا بهذا السؤال، حتى إن أرسطو يعّرف الإنسان بأنه حيوان سياسى. فالبشر يعيشون بالضرورة فى جماعات، وهو ما يستدعى وجود نظام وقوانين وأخلاق، وبالتالى لا محل لهذه القسمة بين حالتين تتابعا زمنياً، حالة الطبيعة وحالة المجتمع. وجود حالة للطبيعة فى التاريخ البشرى فى نظر فلاسفة السياسة فى العصر الحديث هو افتراض، ولكنه كان ضرورياً بالنسبة لهم لصياغة نظرية يقوم على أساسها النظام السياسى الحديث. فافتراض وجود القسمة يطرح سؤالاً آخر: كيف ولماذا انتقل البشر من حالة الطبيعة إلى حالة الدولة؟ وهو ما يعرف فى تاريخ الفكر باسم نظرية العقد الاجتماعى. اختلفت التصورات فى بيان أسباب هذا الانتقال المفترض. فيرى الفيلسوف الإنجليزى هوبز أن الإنسان يتسم بطبيعة عدوانية وأنانية، فهو يسعى دائماً إلى انتزاع ما فى يد الآخرين سلبا وغصبا، كما أنه يعلم أن الآخرين يترصدون له، وبالتالى فهو يعيش فى خوف دائم. ومن هنا جاءت عبارته المشهورة: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» لتصف حالة الطبيعة التى هى أيضاً عنده حرب الجميع ضد الجميع. كان يصعب إذن على النوع البشرى أن يستمر فى ظل العنف والفوضى، ومن هنا رأى البشر أن عليهم أن ينشئوا سلطة قوية تردع كل إنسان عن إيذاء غيره وتحكم فيما بينهم من خلافات، وبالتالى ظهرت الدولة لتحقق الأمن وتحرر الإنسان من الخوف. أما جون لوك فيرى أن الإنسان قد ولد بالطبيعة حراً، يتمتع بحرية الرأى والانتقال والعمل ويتمتع بثمرة عمله، ولكن هذه الحريات بدون قانون تظل مهددة، ومن هنا اتفق الناس على إنشاء سلطة تحمى لهم حقوقهم وحريتهم. ويرى جان جاك روسو أن الرأى الذى قدمه هوبز غريب فهو يصور الانسان على أنه نوع مولع بتدمير نفسه خلافا لباقى الأنواع الأخرى. وأضفى روسو على حالة الطبيعة طابعاً مثالياً، فالبشر طيبون بالطبيعة يأسون لآلام الآخرين ولا يحبون إيذاء أحد، كما أنهم أبرياء صادقون، تأتى كلماتهم تعبيراً عن مشاعرهم الكامنة دون تصنع ولا رياء. من قلب هؤلاء ظهر من استولى لنفسه على قطعة من الأرض واعتبرها ملكاً له، وكانت هذه بداية ظهور التفاوت بين البشر، فسعى الأقوياء لإنشاء سلطة لتحمى امتيازاتهم. ونجد لدى روسو أن ظهور الدولة ليس مؤشراً على الرقى بل علامة على التدهور الأخلاقى، لأن حالة الطبيعة كانت حالة مثالية. حتى إن فولتير كان يسخر من هذه الفكرة قائلاً: عندما يقرأ المرء روسو فإنه يتمنى أن يعود لكى يسير على أربع أقدام فى حضن الطبيعة. ورغم الاختلاف بين الفلاسفة الثلاثة، فإنهم يجمعون على أن الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة النظام الاجتماعى قد تم بناء على عقد صيغ برضى جميع الأطراف، بمقتضاه يتنازل المرء عن أخذ حقه بنفسه، ويخول الأمر للدولة التى تحافظ على حقوقه وحقوق الآخرين. هذا التصور يقتضى أمرين: الأول وجود قوانين وقضاء يلجأ يليه الفرد للشكوى، والثانى اختفاء السلاح من أيدى الأفراد ويكون فى يد الدولة فقط حتى تتمكن بقوتها من فرض احترام القانون على الأفراد. هذه باختصار النظرية الحديثة فى نشأة الدولة طبقاً للعقد الاجتماعى. ولكن جون لوك يطرح السؤال الذى يدور فى أذهاننا جميعاً: أين هو هذا العقد؟ هل لدينا صورة منه؟ أو هل عثر علماء الآثار على صيغة له فى إحدى الحضارات القديمة؟ ويجيب: لا. ولكنه يرى أن العقل لا يمكنه أن يتصور صيغة أخرى للانتقال من حالة الطبيعة الى حالة الدولة دون هذا العقد الذى تم برضا الأطراف. لم يكن هناك إجماع بين الفلاسفة ومفكرى السياسة على أنها هى التفسير الوحيد لنشأة الدولة، فالفيلسوف الألمانى هيجل يرى أنها أشبه بحكايات الأطفال، وماركس يرى أن التاريخ يبين بوضوح أن العنف والقهر وليس التراضى كان هو أساس ظهور الدولة. نظرية العقد الاجتماعى إذن هى أسطورة. وهى أسطورة تشكلت فى العصر الحديث: عصر العلم وانتصار العقل، العصر الذى يعتقد أنه تخلص من الأساطير للأبد. نعم، هى أسطورة ولكن تولد عنها مبدأن رئيسين فى الحياة السياسية الحديثة: المبدأ الأول هو سيادة الشعب، فهو الذى يختار بحرية الحكومة التى تدير شئونه، والمبدأ الثانى هو مبدأ الحقوق الطبيعية التى يتمتع بها الإنسان من حيث هو إنسان دون أن تكون منحة من الحاكم ولا يستطيع أن يسلبها منه أحد. لمزيد من مقالات د.انور مغيث;