لا أميل إلى القول مع القائلين بأن «أخلاق المصريين قد تغيرت»، وأن هذا هو السبب فى أنهم الآن لا يفعلون كذا وكذا، بينما كانوا فى الماضى يفعلون ذلك.. الخ، سلوك المصريين يتغير بالطبع فى الكثير من الأمور، ولكن هل هذا معناه تغيرّ فى الأخلاق؟ لا أظن. والمصريون، على أى حال، أشكال وألوان، وينتمون إلى طبقات مختلفة، والطبقة الوسطى قد يطرأ عليها التغيير أكثر من الطبقات الدنيا أو العليا، بحكم أنها تتغذى باستمرار من الصاعدين إليها من درجات السلم الدنيا، أو الهابطين اليها من الدرجات العليا، وبحكم ميل أفرادها (أى أفراد الطبقة الوسطى) أكثر من غيرهم بالتظاهر بغير الحقيقة، تشبها بمن هم أعلى منهم، أو لتأكيد تميزهم عمن هم أدنى منهم، ولكن كل هذا قد يؤدى إلى تغير السلوك، والتغير فى السلوك أكثر تقلبا وأقل عمقا من تغير الأخلاق. وقد كتبت منذ نحو عشرين عاما كتابا بعنوان «ماذا حدث للمصريين؟» كان معظمه يدور حول سلوك الطبقة الوسطى المصرية خلال نصف القرن السابق والأسباب الدافعة إلى هذا التغير، ولكنى لاحظت بعد ذلك المزيد من التغيرات فى سلوك الطبقة الوسطي، لأن هذا السلوك لا يكف عن التغير، من ناحية، ولأن ما كان خافيا قد أصبح أكثر وضوحا، من ناحية أخري. إنى لازلت أذكر أشياء كانت تحدث فى مصر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ويصعب تصور حدوثها الآن، ويرجع وجودها حينئذ، فى رأيي، ثم اختفاؤها الآن إلى ما طرأ على الطبقة الوسطى المصرية من تغيرات عميقة أو سطحية، ولكنها نادرا ما تخلو من طرافة. أذكر مثلا أننى فى أوائل أو أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، كنت أذهب أحيانا إلى المسرح فى صحبة أبى وبعض اخوتى لنشاهد إحدى المسرحيات أو لنستمع إلى غناء خفيف ممن كانوا يسمون وقتها «بالمونولوجست»، وكانت من بينهم امرأة شهيرة هى ثريا حلمي، عُرفت بخفة الظل وهى تلقى أغنيات سريعة الايقاع وتتضمن (ويا للغرابة) نقدا لبعض الظواهر الاجتماعية، كالنفاق والتظاهر بغير الحقيقة، أو الحصول على منصب كبير عن طريق الواسطة ودون استحقاق. الخ. كان أبى وقتها أستاذا بالجامعة، ولم يكن هو أو غيره يعتبر الحضور للاستماع لمثل هذه الأغنيات شيئا يقلل من مقامه. أذكر أيضا أن مسرح نجيب الريحانى بشارع عماد الدين كان يزدحم بالمتفرجين من الطبقة الوسطي، التى كانت تعتبر وقتها «راقية» إذ حصلت على مكانتها الاجتماعية عن طريق التعليم وليس لمجرد الثراء، وقد أثر هذا بالطبع فى نوع ما كان يلقى على خشبة المسرح من أغان أو تمثيليات، فالجمهور كان (كالعادة دائما) هو الذى يحدد مستوى ما يتلقاه من فنون وليس العكس. أذكر ايضا كيف كان مستوى ما تذيعه محطات الإذاعة المصرية (التى كانت قليلة العدد وتنتهى قبل منتصف الليل بعزف السلام الملكي) راقيا جدا، بالمقارنة بما يذيعه التليفزيون الآن، سواء من حيث اللغة المستخدمة، أو سلامة النطق بالعربية، أو مضمون البرامج التى يقدمه. كانت أم كلثوم تقف على خشبة مسرح كبير (كمسرح الأزبكية) أو سينما شاسعة الأرجاء (كسينما قصر النيل) مساء أول خميس من كل شهر، فتمتلئ المقاعد كلها، وتغنى من بين ما تغنيه شعرا صعبا لأحمد شوقى (مثل قصيدة سلوا قلبى أو نهج البردة)، فيشتعل حماس الناس، وعلى الأخص عندما تقول: «وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا». كانت أغانى محمد عبدالوهاب أخف وزنا وأكثر تأثرا بالألحان الغربية، ولكنه غنى مع ذلك أغانى فى وصف معبد الكرنك والنهر الخالد..الخ. كانت الطبقة الوسطى صغيرة حقا (لا تتجاوز 20% من مجموع السكان)، ولكنها كانت تستحق وصف «الراقية»، وقد كانت العلاقة وثيقة بين هذا الوصف وصغر الحجم. فالتعليم فى النصف الأول من القرن العشرين كان متاحا فقط لشريحة صغيرة من سكان المدن، بينما يتجاهل أكثر من 80% من المصريين القاطنين فى الريف. سمح هذا (حتى فى ظل الاحتلال الانجليزي) بتخطيط أفضل للمقررات الدراسية، وتدريب عدد أكبر من المدرسين، وظهر أثر ذلك فى خريجى المدارس والملتحقين بالجامعات، ومن ثم حصلنا على مؤهلين فى مختلف التخصصات أفضل حالا بكثير ممن نحصل عليهم الآن. من الملفت للنظر أيضا (لمن لازال يتذكر تلك الأيام) كم كانت راقية العلاقة بين المسلمين والأقباط. إنى أذكر جيدا كيف كانت الأقليات الدينية تعامل من جانب الأغلبية، ومن أفضل جوانب هذه المعاملة عدم الاهتمام أصلا بمعرفة ما إذا كان الشخص الذى نتعامل معه يدين بهذا الدين أو ذاك. من الممكن أن نفسر هذا السلوك الرائع الذى ساد بين أفراد الطبقة الوسطى بنوع التعليم ومستواه، ولكنى أميل إلى أن أعلق أهمية أكبر على ما كانت الطبقة الوسطى فى مصر تشعر به طوال النصف الأول من القرن من استقرار وثقة بنفسها وبمستقبلها. لم يكن أفرادها يشعرون بأنهم مهددون بفقدان مركزهم الاجتماعى (الذى حققوه بوسيلة لا يمكن سلبها منهم، وهى التعليم) ولا بإن هناك من ينافسهم مراكزهم ممن لم يحققوا القدر الكافى من التعليم من الصاعدين حديثا من الطبقة الدنيا، ناهيك عن خطر التضخم الجامح، هذا الشعور بالاستقرار والثقة جعلهم فى غير حاجة إلى تأكيد تميزهم أو ادعاء تفوقهم على من يدينون بغير دينهم.. فلما جاء النصف الثانى من القرن بعوامل جديدة كثيرة تهز هذا الاستقرار وهذه الثقة بالنفس، بدأنا نشاهد مختلف الأمثلة على التعالى على الآخرين واساءة معاملتهم. لابد أن يكون هذا التغير فى خصائص الطبقة الوسطى المصرية خلال نصف القرن الماضي، وثيق الصلة بما طرأ على كثير من جوانب الثقافة المصرية. من بين القراء يذكر مثلى حالة المجلات الثقافية التى كانت تصدر فى مصر فى أربعينيات القرن العشرين، والفرق بينها وبين ما يصدر الآن؟ كانت المقالات أكثر رصانة وأقل تأثرا بما يجرى فى الغرب، إذ هكذا كانت أيضا الطبقة الوسطى المصرية: أكثر وقارا وأقل تعرضا لنمط الحياة الغربية. وكذلك كانت الموسيقى والأدب: أبطأ ايقاعا وأكثر تزمتا فى تناول موضوعات الحب والجنس. هل من الممكن أن نقول إن الأعمال الثقافية اصبحت الآن أكثر حرية مما كانت قبل نصف قرن، مثلما أصبح جيل أولادى ثم جيل أحفادى أكثر حرية من جيلى وأكثر تصميما على ممارسة هذه الحرية؟ لا أشك فى ذلك. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;