توالت التعقيبات حول حلم التنمية المحلية الذى حاولت الحديث عن بعض ملامحه فى مقال الأسبوع الفائت، ولم تكن صدفة أن أجد شبه اتفاق جماعى على الأمل فى علم وخبرة وسمات الوزير الدكتور هشام الشريف.. وأيضا على الشك والريبة والخوف إزاء أن تتمكن المعوقات الموجودة فى صميم تكوين كثير من الدوائر الحكومية من حصار العلم والخبرة ومن تفريغ الأمل من مضمونه، لتستمر الدائرة المفرغة فى دورانها ويستمر زرع الرياح وحصاد الهشيم! تخوف كثيرون من وجود عشرات «اللواءات» الذين احتلوا المواقع القيادية فى الوزارة والمحليات وهم بعيدون، بحكم التكوين التعليمى والوظيفى والمرحلة العمرية التى تركوا فيها الخدمة فى وظائفهم الأصلية، عن إدراك طبيعة العمل فى التنمية المحلية، ووجود قناعة راسخة لدى عدد غير قليل منهم أن الوظيفة المدنية محض مكافأة على فترة الخدمة فى الجيش أو الشرطة، وأن أقصى ما يمكن أن يبذلوه هو ضمان الولاء للحكم وكفالة الهدوء والاستقرار، أو بالبلدى عدم السماح بأى «دوشة» من أى نوع!، وتلقفها المحترفون ليعم الفساد مقابل عدم الدوشة. وتخوفوا أيضا من الخبرة التاريخية - بمعنى الراسخة زمنيا وليس الفريدة - للبيروقراطية المصرية فى إجهاض أى سعى للبناء الجاد المرتكز على العلم وتطبيقاته، وعلى أسس حضارية وثقافية واعية من مضمونه، وهذا ما حدث منذ زمن الموظفين الذين جعلوا الفلاح الفصيح يصيح مستغيثا بالملك المصرى القديم «الفرعون»، ومرورا بكل العصور حتى مصر الحديثة والمعاصرة، لدرجة أننا عشنا - جيلى وأجيالا قبله - حقيقة السعى لبناء ليبرالى دون ليبراليين.. ثم بناء اشتراكى دون اشتراكيين ثم العودة لتوجه رأسمالى ليبرالى دون ليبراليين وهلم جرا.. وصافحتنا الوجوه الكالحة نفسها التى أسهمت فى إجهاض كل محاولة جادة وإفراغها من مضمونها! وتستمر التخوفات لتصل إلى الذعر من أن يعمد أعداء التغيير وخصوم النجاح، الذين هم فى طلاق دائم بائن مع العلم والمعرفة والثقافة، وبالتالى فى عناق لا ينفصل مع الجهل والتخلف والأنانية والفساد - يعمدون - إلى حصار الوزير ونصب الفخاخ له وتدبير المطبات ووضع أسياخ الحديد - وليس العصى فقط - فى عجلة العمل بالعلم والثقافة! وإذا كان حديث التخوفات مشروعا حتى يتم تلافيها، فإن من المشروع أيضا استكماله على جوانب أخرى، منها التخوف من استمرار عقلية وثقافة إلقاء كل الحبال على عاتق المسئول وحده، وكأننا فى حلبة ساحر أو حاو يؤدى ألعابه المبهرة بينما الجميع يصفقون من بعيد أو ينصرفون فى صمت!.. وهذا الأمر ليس بسيطا بل هو فى نظرى موطن الداء وأس البلاء، وهو ما فطن إليه رئيس الجمهورية الذى لم يتوقف عن النداء بأنه وحده لن يستطيع إنجاز المهام المطلوبة لإنقاذ الوطن، ولابد من تضافر كل الجهود بين الناس وبين الحكومة والرئاسة. أظن - وليس كل الظن إثما - أنه رغم كل السلبيات والإحباطات، فإن الواجب الذى ينبغى أن يتقدم لأدائه كل الخائفين على حاضر الوطن ومستقبله، هو التحرك باتجاهين، الأول: هو السعى للتعاون مع المسئول - وهو فى حالتنا هذه وزير التنمية المحلية - بالتقاط دعوته التى جاءت فى جملة قصيرة فى أثناء زيارته أسيوط، حيث دعا إلى إنشاء مجلس حكماء فى كل محافظة، وبقى أن يدور الحوار الجاد حول الفكرة كيف تتم وما مهمة مثل هذه المجالس وكيف تفلت بدورها من أن تصاب بالأمراض المتوطنة فى البنية الاجتماعية - الثقافية وهلم جرا، أما الاتجاه الثانى فهو التحرك الأفقى الحر فى ربوع الوطن، واكتشاف وربما اختراع الوسائل والأشكال التى تبث روح النهضة الشاملة فى الجسد المصري، فنحن لدينا مئات الجمعيات غير الحكومية ولدينا ألوف المبدعين من شعراء وقصاصين ورسامين وحرفيين مبثوثين فى كل ثنايا المحروسة، ولا ينقصنا سوى اختراع شبكة تتقاطع فيها كل الخيوط لتشكل وعاء عاما مثلما هى شبكة الصيد فى مياه البحر!.. وعندما يلتقى المتحركون فى الاتجاهين، وحتما سيلتقيان، ينجلى الوجه الحقيقى للمحروسة الغالية التى كانت الأصل فى قانون «التحدى والاستجابة» الذى رأى أهم فلاسفة التاريخ أنه أساس تقدم الأمم. ولقد أدى تقاعس كتلة المتخوفين الواعين بحجم وعمق التحدى ووقفوا عند مرحلة التشخيص، حتى برعنا كلنا فى مهارات التشخيص دون أن نتجاوزها للعلاج، إلى أن تتكاثر علينا التحديات.. وعدنا إلى التحدى الأول الذى واجهه السكان الأول للوادي.. تحدى التعامل مع النهر والصحراء والبحر ونجحوا فى الاستجابة له، ولكنه عاد من جديد لنعيش الآن تحدى التصحر.. والتبحر - أى هجوم البحر على أرضنا من الشمال - وتحدى شح المياه اللازمة لاستمرار الحياة! ثم حدث ولا حرج عن تحديات شرسة كلنا نتكلم عنها وفيها.. وعندى فإن الحل هو الاستجابة للتحديات على نطاق واسع باتساع مصر كلها.. من عمق ريفها وبواديها إلى حواريها ومدنها، ولا أدرى هل يدرك سكان «المعازل - الكمبوندات» أنهم إن لم يشتركوا فى الاستجابة المطلوبة فإن العواقب لن تفلتهم أم لا؟! إن مرحلة «قلوبنا معكم» قد أضحت بالية لا تصلح للعمل الذى دقت ساعته وبعنف وإلا فهو الهلاك، لنكون فى مرحلة سواعدنا وعقولنا وكل طاقاتنا مع من يبنى ويريد السلامة للوطن. لمزيد من مقالات أحمد الجمال