قدم يوسف إدريس فى ستينيات القرن الماضى القاص والمترجم أحمد الخميسى إلى قرائه كاتبا للقصة القصيرة، متوقعا أن يصل إلى مكانة مرموقة على خريطة الأدب العربى، وأثبتت الأيام صدق توقع رائد القصة القصيرة، فأصبح الخميسى أحد أبرز كتاب القصة فى مصر والعالم العربى. ومنذ اسابيع قليلة فاز الخميسى بجائزة ساويرس عن مجموعته القصصية «أنا وأنتِ»، وعن هذه المجموعة كان هذا الحوار معه. بالرغم من كثرة استخدام الرموز فى المجموعة، فإن «الواقع» كان أكثر حضورا.. كيف صنعت هذا المزج الإبداعى بين الرمز والواقع؟ أعتقد أن المزج بين الواقع والرمز، أو اختراق الحاجز بين الواقع وصورته أصبح مهمة أساسية للأدب، فقد تعرف الأدب طويلا لنحو قرن ونصف القرن من الرواية والقصة على شكل الواقع الخارجى، هذا الشعور بأن الأدب مشبع بشكل الواقع يقود الكاتب حتما للبحث عن ذلك المزيج الذى تسأل عنه. الآن صارت المهمة هى التعرف إلى انعكاس هذا الواقع خيالا وشعورا، وأصبح من المهم جدا فى الكتابة أن تلامس الواقع لتحلق منه إلى الخيال. «بيت جدى» رواية متكاملة العناصر.. لم وضعتها داخل المجموعة القصصية؟ أتفق معك فى أن «بيت جدى» نص طويل وله طبيعة أقرب إلى الرواية منها إلى القصة القصيرة، وأقول لك صراحة إننى وضعت النص داخل المجموعة القصصية لرغبتى فى معرفة رد فعل القارىء على نص يعتمد السرد التقليدى، ولأعرف هل مازال لذلك النوع من السرد مكان فى نفس القراء؟ وهل مازال له دور؟. وهناك قصة أخرى بعنوان «سأفتح الباب وأراك» وهى أبعد ما تكون عن البناء القصصى، فهى أقرب إلى قصيدة مفتوحة، وقد وضعتها أيضا فى المجموعة بالدافع ذاته. فأحيانا يحتاج الكاتب إلى تلمس ردود أفعال القراء ليصحح طريقه، خاصة أننى أعتبر أن الكتابة عموما «تجريب»، لكن بشرط أن يكون تجريبا قد تشرب واستوعب خبرة الماضى وأدواته الفنية، وبهذا الصدد كان بيكاسو يقول: «تعلم قواعد الفن جيدا لكى تحطمها». استعنت بإحصائيات رسمية فى أحداث قصة «الصبى الذى يأكل الماء» مع خبر لحادث حقيقى لسجن طفل جائع سرق خمسة أرغفة.. ألم تخش أن يؤثر ذلك على الناحية الفنية للقصة؟ - الاستعانة بحادث حقيقى كأساس لقصة ليس عيبا، المهم كيف تصوغه، لكن مشكلة تلك القصة أنها استعانت بأرقام واحصاءات ووقائع حولتها إلى ما يشبه «لحظة تسجيلية»، وبالطبع كتبتها وفى خاطرى هذا الخوف من أن يؤثر ذلك التوثيق فى فنية القصة، لكن كان السؤال الملح بالنسبة لى – أكثر من الفن- هو رصد هذا الواقع، ففى بعض الأحيان يضحى الكاتب بالفن لصالح التعبير المباشر، لكنه يشعر أنه يريد أن تقول ما يلح عليك، وأعترف أن ذلك التوثيق أثر فى الجانب الفنى ولا أظنه أثر بالإيجاب. لجأت للتاريخ فى قصة «ليلة بلا قمر» فجعلتها تدور فى عصر المماليك.. متى يلجأ الكاتب للتاريخ؟ عادة يلجأ الكاتب للتاريخ فى ظروف الرقابة والتضييق على حرية التعبير، فيستخدم صفحة من التاريخ لإسقاط دلالاتها على الحاضر، نجيب محفوظ كتب ثلاث روايات تاريخية، وقال بعدها إنه اكتشف أنه يكتب الحاضر لكن فى ثوب الماضى، وأن عليه – طالما أن هذه هى الحال- أن يكتب الواقع مباشرة، ومن ثم انتقل إلى رواياته الاجتماعية. التاريخ فى الأغلب ثوب يتنكر فيه الحاضر، لكن فى حالات أخرى يلجأ الكاتب إلى التاريخ لأنه عثر على واقعة تساعده معطياتها فنيا على التعبير، وأحيانا رغبة فى إحياء معنى محدد كما فعل أبوالمعاطى أبوالنجا فى رائعته «العودة إلى المنفى» عن حياة عبد الله النديم، وهكذا فإن الدوافع والأهداف من استخدام التاريخ كثيرة. من الواضح أنك كنت تبحث فى قصصك عن «الأمل» وسط أكوام اليأس.. فهل ترى أنك نحجت فى ذلك؟ حقيقة لا أدرى إن كنت قد عثرت عليه أم لا، وشتان بين أن يدعو كاتب إلى الأمل، وبين أن يحمل شعلته عاليا. درست الأدب الروسى ولك باع كبير فى ترجمته.. ماذا استفدت من ذلك؟ استفدت الكثير من دراسة الأدب الروسي، وأظن أن كل من يدرس أدب شعب آخر يجد هذه الفائدة، أولا أن تتعرف روحيا على شعب آخر عبر آدابه، ثم تتعرف إلى تقاليده وطرق تفكيره ونفسيته أيضا، وتخرج بأهم النتائج وهى أن الانسان هو الانسان مهما اختلفت لغاته، وهى نتيجة مهمة جدا، ثم تخرج بأن طرق التعبير تختلف فى شيء أو آخر، لكنها أيضا تتفق فى الكثير. دراسة أدب شعب آخر يجعلك توقن تماما أن الانسان هو الانسان، وأحيانا تجد لديه نفس كلامك، نحن نقول: إن سرقت اسرق جمل وان عشقت اعشق قمر، وهم يقولون: إن أحببت فاعشق ملكة وإن سرقت اسرق مليون. والأدب الروسى بالذات له علاقة وثيقة بالثقافة العربية، فقد ترجم ليف تولستوى العديد من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، ونشرها فى كتاب بعنوان «حِكم النبى محمد»، وكتب بوشكين أمير الشعراء الروس «ليال مصرية»، وكتب «قبسات من القرآن» وهى قصيدة من تسعة مقاطع، وهكذا تكتشف من دراسة الأدب أن الآخر هو أنت لكن بشكل مختلف بعض الشىء. ماذا ورثت من والدك الأديب الراحل عبدالرحمن الخميسى؟ ورثت عنه استهانته بالمال، وشعوره بالكرامة، وحبه الناس، والموهبة، وحرصه أن يظل حرا، ولم أرث عنه خصالا أخرى كثيرة وجميلة، لكن ما ورثته منه يكفى لكى أكون سعيدا.