فى وقت ما أعتقد أنه جاء إلى العالم كى يختلف معه، لكنه مع الوقت أكتشف أنه جاء إلى العالم لكى يفهمه، ويرى أن الجائزة الحقيقية للكاتب هو القارئ، أما الجوائز الأدبية فهى محطة فى رحلة الكاتب، وأبطال قصصه يولدون مع فكرة القصة، وأحيانًا تكون الشخصية هى الفكرة ذاتها. الكاتب الصحفى والقاص أحمد الخميسى، والحائز على جائزة ساويرس عن مجموعته القصصية "كنارى" كأفضل مجموعة فرع كبار الأدباء عام 2011، وكتب عنها الناقد الكبير علاء الديب بأنها "أجمل مجموعة قصصية منذ "أرخص ليال" ليوسف إدريس، تم تكريمه من اتحاد الكتاب العرب لدوره الثقافى، ومن جهات أخرى، اليوم يجوب بنا الخميسى فى كتاب "النهر الخالد". ويتجول "الخميسى" مع القارئ بين صفحات كتاب "النهر الخالد" فيقول عنه، إنه كتاب من نوع آخر، فهو حوار طويل فى ثلاثين فصلا أداره الكاتب المسرحى المعروف سعد الدين وهبة مع الموسيقار محمد عبد الوهاب. ويضيف "الخميسى"، الكتاب كان فى الأصل حلقات تلفزيونية ثم جمعها الكاتب وأصدرها كما هى بالعامية، والكتاب – غير أنه ممتع – هو إضاءة نادرة للعلاقة بين الموسيقى والأدب تعاون فى نشرها كاتب متمرس وموسيقار عظيم، وهو موضوع قلما نتعرض له بإسهاب، على الرغم من أن نجيب محفوظ مثلا كان يتقن العزف على القانون! ويحتفظ فى بيته بقانون يعزف عليه فى أوقات فراغه، وليحيى حقى كتابات كثيرة عن الموسيقى منها مقاله الشهير "تعال بنا إلى الكونسيرت". ويتابع "الخميسى" قائلاً، ومع ذلك ظلت علاقة الأدباء والقراء بالموسيقى لا تتجاوز حدود التلقى والمتعة إلى محاولة فهم عالم أولئك الملحنين العظام أمثال محمد عثمان أبو الموسيقى المصرية الحديثة، وصاحب دور كادنى الهوى، أو القصبجى، أو السنباطى، أو صدقى؛ فنحن نسمع ألحانهم ونصف دماءنا العاطفية من نغماتهم لكننا لا نوليهم أى اهتمام. ويوضح "الخميسى"، فى هذا الكتاب تنهض أمامنا علاقة محمد عبد الوهاب المبكرة بأمير الشعراء أحمد شوقى، الذى اصطحب عبد الوهاب معه، وهو فى السادسة عشرة إلى باريس فى أول رحلة لعبد الوهاب تعرف فيها إلى الموسيقى الأوروبية الأوركسترالية فتركت أثرها العميق فى وجدانه. ويستطرد الخميسىى قائلاً، ومنه نعلم كيف تعاملت فاتن حمامة مع عبد الوهاب بجرأة الطفلة فى فيلمها الأول معه "يوم سعيد"، وكان عبد الوهاب يضحك منها كلما أخطأت فى كلمة فقالت للمخرج محمد كريم "مشى الراجل ده وهات واحد غيره"!. ويحكى "الخميسى" أنه من صفحات الكتاب الممتعة نرى علاقة سعد زغلول زعيم الأمة بشوقى أمير الشعراء، ونرى شخصية شوقى كما يعرضها عبد الوهاب علينا تضج أمامنا بالحياة، وفيه يسرد عبد الوهاب كيف كان له فى بيت مصطفى النحاس جلابية مخصوص ينام فيها إذا زار النحاس باشا. ويؤكد "الخميسى" أن الكتاب يقدم لنا – من خلال ذكريات عبدالوهاب- عصرا كاملا برجاله وفنونه، يضع هذا الكتاب الممتع أيادينا على رحلة عبد الوهاب التى خلق خلالها الأغنية المصرية الحديثة مرورا بالطقطوقة إلى الدور إلى الموشح إلى الأغانى الجديدة، ثم علاقة عبد الوهاب المركبة المعقدة بأم كلثوم، وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وغيرهم. ويشير "الخميسى" إلى أن ذلك الكتاب الممتع يعرض رحلة عبد الوهاب الفنية والإنسانية الطويلة من قاع حى باب الشعرية إلى القمة، ويبين أن الفن رسالة يعانى الفنان فى سبيلها. ويضيف "الخميسى" الكتاب يوضح لنا كيف كان عبد الوهاب يهرب من أسرته ليعمل فى فرقة الجزايرلى ويتعرض للعقاب، ثم يهرب ليعمل مع سيرك فى طنطا، ثم مع فرقة عبد الرحمن رشدى، بل وكيف سافر فى رحلة إلى الشام وهو صبى صغير مع سلطانة الرقص بديعة مصابنى وكان متعهد الرحلة – لتوفير أجرة غرف الفندق – يجعل عبد الوهاب بحكم أنه طفل صغير ينام مع سلطانة الرقص فتأخذه فى أحضانها كأنه ابنها!. ويوضح "الخميسى" أن الكتاب يضع أيدينا على رحلة الموسيقى المصرية الحديثة كلها من بداياتها، والأهم أنه يظهر لنا القاسم المشترك بين الموسيقى والأدب، فيتضح لنا أن العملية الإبداعية تمر بنفس المجرى هنا وهناك! يتحدث عبد الوهاب عن الخاطر اللحنى الأول الذى يطرأ للموسيقار فيقول: "اللحن بيبقى زى خاطر بييجى للإنسان.. والخاطر ده حاجة من عند ربنا.. فهو مجرد ومضة بتيجى .. ومضة غير متوقعة.. بعدين ييجى دور العقل فى الانتفاع بهذه الومضة أو هذا الخاطر.. وأنت يا أستاذ سعد أديب كبير لما بيجى لك خاطر روائى ما بيبقاش لسه عمل فنى.. لكن عشان تفرده فى مسرحية ثلاث فصول بتحتاج مرحلة من العقل والتفكير والتأنى"؛ وهنا يصف عبد الوهاب بالدقة ما يحدث فى مجرى العملية الإبداعية لدى الكاتب!. ويؤكد "الخميسى" أن الكتاب باختصار أحد أجمل الكتب التى يمكن أن يطالعها القارئ سواء كصورة لعصر ثقافى، أو كنوع من فهم الموسيقى وتاريخها وفهم العلاقة بين الموسيقى والأدب، أو كنوع من التعرف إلى عالم موسيقار عظيم تجرى أنغامه فى دمائنا بدون توقف هو محمد عبد الوهاب. ومن جهة أخرى يشير "الخميسى" إلى أنه انتهى من قراءة رواية "الثور" للكاتب الصينى "مو- يان" الحائز على نوبل، ترجمة د. محسن فرجانى، فى الوقت ذاته يعيد قراءة الإبداع القصصى لأنطون تشيخوف. ويقول "الخميسى" يتجدد ذهولى أمام قصص تشيخوف القصيرة والطويلة، وأتعجب كيف كتب وهو فى الثلاثين من عمره قصة مثل "حكاية مملة" مشبعة بكل أحزان وخبرة وحكمة إنسان فى التسعين!.