ابتليت مصر بفقهاء ومشايخ هم فى حقيقتهم عدماء الدين وليسوا علماء الدين، وصف أمثالهم أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندى المتوفي873م، فقال «هم من أهل الغربة عن الحق، وإن تُوِجوا بتيجان، دون استحقاق، يدافعون عن كراسيهم المزورة؛ التى نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر شيئا باعه، ومن باع شيئا لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين». هؤلاء المتاجرون بالدين من عدماء الدين؛ الذين لم يكن لهم سابق علم، ولا تفرغ لعلوم الدين قبل اتجارهم به، والآن صاروا هم قادة الدعاة، ورءوس المفتين، هؤلاء يملأون شاشات الفضائيات، صنع صورتهم ومنحهم الألقاب معدو البرامج من أصدقائهم، ولم يرشحهم للتصدر للفتوى والدعوة علمٌ ولا فضلٌ، فأصبحت الفضائيات الخاصة هى من تصنع العالم والفقيه والداعية، وللأسف تورط تليفزيون الدولة فى تلك الصناعة لانتشار الفساد فى الإدارة والإعداد. مصر تعيش أزمات خانقة أهمها حالة انحطاط قيمى وأخلاقى غير مسبوقة منذ آخر مجاعات عصر المماليك قبل أكثر 600 عام، مصر ينتشر فيها زنا المحارم، وقتل وحرق الآباء والأمهات من أجل بعض مئات من الجنيهات، وخيانة الأمانة، وأكل الحرام والسحت والرشوة، والسرقة، ونهب المال العام، والغش فى التجارة، وسرقة أعضاء المرضي.. الخ، وعدماء الدين يشغلون الشعب ومؤسسات الدولة بأتفه الأمور، هم فى حقيقتهم نوع من المخدرات، هؤلاء فعلا أفيون الشعوب، وليس الدين ذاته كما قال كارل ماركس. مصر أصابها الإيدز الاجتماعى منذ ربع قرن، المجتمع فقد المناعة المكتسبة من آلاف السنين، وأصبح متلقيا لكل أمراض الكون، الأسرة المصرية التى هى أهم ما تملك مصر، وهى مخزون القيم، وهى المربى الأول للمصرى الذى كان عظيماً، هذه الأسرة معرضة للتفكك والانهيار، فقد رصدت الأممالمتحدة فى إحصاءاتها، أن نسب الطلاق ارتفعت فى مصر من 7 فى المئة إلي40 فى المئة خلال نصف القرن الماضي، ليصل إجمالى المطلقات فى مصر إلى 4 ملايين مطلقة. فى الوقت الذى تؤكد فيه الإحصاءات الرسمية أن المحاكم المصرية، شهدت تداول نحو 14 مليون قضية طلاق فى العام 2015، يمثل أطرافها 28 مليون شخص، أى نحو ربع تعداد سكان المجتمع المصري. على الرغم من ذلك يلهى مجموعة من عدماء الدين المجتمع والدولة بكيفية إثبات الطلاق، وليس بأسباب وقوع أبغض الحلال، كان من المتوقع، وهم الذين ينحصر دورهم فى إصلاح أخلاق الناس وقيمهم، وتصحيح الاعوجاج فى حياتهم؛ أن ينشغلوا بإعادة القيم إلى الفرد والمجتمع، أن ينشغلوا بكيفية ترميم الأسر الآيلة للانهيار، أن ينصب جهدهم على إزالة أسباب الطلاق، وأن يفكروا فى طرق ووسائل تصلح بين الزوجين، ولكن للأسف لأنهم عدماء الدين، تجار يبحثون عن الثراء، مهووسون بالنجومية والتليفزيون والمتابعين، طامحون فى منصب أكبر بملايين المرات من قدراتهم، تراهم عادة يفجرون الأزمات، ويثيرون المشكلات لتحقيق الشهرة وتحصيل الدولارات. أصل الحكاية أننا نحتاج فى هذا العصر إلى «علم رجال» جديد، ولقلة الرجال من الممكن أن يطلق عليه «علم العيال»، لابد من تتبع سيرة وتاريخ كل من هؤلاء الذين يتصدون لقيادة الرأى العام، أو الخطاب الديني، ولنأخذ مثلا ذلك النجم التليفزيونى الذى فجر قضية الطلاق الشفهى والمكتوب، هو مدرس مغمور متخصص فى فقه الحيض والنفاس والطهارة، لم يكن له بحث أو كتاب علمى منشور قبل أن يصبح نجما فى التليفزيونات الخاصة، كان يطبع مذكرات ومحاضرات فى الموضوعات التى يدرسها فى مطبعة مجهولة فى المنصورة، ليمتص بها دماء الغلابة والفقراء من طلاب الأزهر، لأن المذكرات الجامعية وسيلة شرعية لامتصاص الدماء، حيث تتكلف المذكرة جنيهين فتباع بأربعين جنيها، ويغتنى الأستاذ الذى تحول إلى تاجر. هذا المدرس البسيط المجهول، قدمه أحد المعارف والبلديات إلى الفضائيات الخاصة فتحول إلى نجم. هذه النجومية جعلت العالم العربى يتعامل معه على أنه عالم، حضر هذا المدرس منذ عامين ونصف عام اجتماعاً فى أبوظبي، وكان معه من يحمل نصف اسمه الأخير أستاذ علم الاجتماع الشهير، والمرحوم اللواء سامح سيف اليزل، وترأس الاجتماع وزير وشيخ من العائلة الحاكمة، وهو من أرقى من عرفت خلقا وأرفعهم قيما، ولأن موضوع النقاش خطة ثقافية طموحة مذكور فيها مئات العلماء والمفكرين؛ ومنهم الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب وارث العلم والفضل، وعندما رأى النجم المغرور اسم شيخ الأزهر ضمن قائمة طويلة، اقتنص الكلمة وشن هجوماً على شيخ الأزهر، فاندهش جميع الحاضرين لأن كل ما يقوله خارج الموضوع، ولا علاقة له بالإمارات، ولم يكن يعلم عديم الدين هذا أن لشيخ الأزهر مكانة عظيمة عند حكام الإمارات، فرمقه الوزير الشيخ بنظرة ما كنت أحب أن يتلقاها منه مصري، وتجاهل كلامه بالمطلق، وسقط هذا الدعى من نظري. هذا الدعى عديم الدين اكتشف أنه فى إيران منذ قيام الثورة قبل 38 سنة يسجلون الطلاق، ولأنه كان جاهلاً وعرف؛ ظن أن هذا اكتشاف جديد، فنقله بدون فهم ولا علم، لأنهم فى إيران لا ينفون وقوع الشفهي، ولكن قانون الدولة يشترط التسجيل فى المحكمة. مصر فى أمس الحاجة لمعالجة أزماتها الحقيقية، وليس لتفكيك مؤسساتها الراسخة، لابد أن يدرك الجميع أن الأزهر مؤسسة هى عمود الدولة وعمادها، وأنه من الرسوخ والاستقرار والاستمرار أقوى كل الدول التى مرت على حكم مصر من الفاطميين إلى اليوم، وأن الصغار من أعضاء مجلس النواب مهمتهم دعم وتقوية الأزهر وباقى مؤسسات الدولة وليس ممارسة مراهقتهم، وتفريغ عقدهم على شيوخ الأزهر الكرام، وليس توظيف الكرسى الذى وضعهم فيه الشعب لتحقيق أحلامهم، وتخليص ثاراتهم، عضو مجلس النواب الذى يهاجم الأزهر لابد أن يحال للتأديب لأنه خالف القسم، وسعى لتخريب النظام العام للمجتمع. الأزهر من أسس النظام العام، وشيخه يمثله مادام هو شيخه، ولا يتوقع من أصحاب التيارات الفكرية المعاكسة إلا التعامل معه بكل تبجيل واحترام لأنه يمثل الأزهر. تعلموا من إخوانكم الأقباط كيف يتعاملون مع رأس الكنيسة، وإن اختلفوا فهم يختلفون معها عبر قنواتها الداخلية دون المساس بهيبة البابا. تعلموا لأنكم فى موقع يستوجب التربية والتعليم. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;