لو أننى سألتك: يا أستاذ.. ما هو الرأي العام؟ فإنك على الفور سينصرف ذهنك إلى جموع الناس إذا ما اجتمع الناس على رأي واحد.. وستجيب على الفور: يا سيدى.. الرأي العام هو رأي الناس.. رأى الشعب.. رأي الأمة.. أو هو رأى الأغلبية. لكننى إذا نظرت فى عينيك بجسارة، ثم همست لك: طيب ومن هم الناس؟ فأحسبك سترتبك قليلًا، ثم تصرخ: جرى إيه؟ الناس يا راجل.. ألا تعرف الناس؟ وسأرد عليك متبجحًا: لا.. لا أعرف من هم بالضبط هؤلاء الناس.. فعن أى ناس تتحدث حضرتك؟ إن كلمة " ناس" هذه مجرد كلمة فضفاضة مرهرطة ومطاطة . ستقول: وما دليلك على هذا الرأى؟ وسأرد: عندى مائة وسبعة وعشرون دليلًا.. لكننى – لضيق الوقت والمساحة- سأذكر لك منها أربعة فقط. أولها، موضوع أسعار السجائر. قل لى.. ألا تفاجئنا الشركة الشرقية للدخان ( موتسيان سابقا) برفع سعر العلبة الكليوباترا كل شهر، بل ربما كل أسبوع؟ حتى أنها قبل أيام رفعت الكليوباترا "البوكس"، إلى 12 جنيهًا وشويه للعلبة؟ فما رأى الرأى العام فى تلك المسألة؟ ستقول متعجبًا: وما علاقة موضوعنا هذا بالكليوباترا يا بنى آدم؟ وسأقول لك: علاقة وثيقة جدًا.. ألست معى فى أن معظم الرجال عندنا يدخنون؟ بلاش معظمهم.. خلينا فى نصفهم. إننا شعب مُدخّن.. هل عندك شك ؟ وبالتالى، فإن نظرية أن الرأى العام هو الشعب، ( وهى عندى ليست صحيحة)، كانت تستوجب أن يدلى الشعب برأيه.. لكنه لم يفعل.. لماذا؟ لأنه ليس هناك إجماع على أن السجائر مهمة، مع أنها مهمة جدًا لأى " مزاجانجى" منا. وعند هذا الحد قد يعن لك أن تشيح بوجهك متمتمًا فى سخرية: يا عم.. ومتى كانت السجائر عنوانًا لأمة.. أو مقياسًا لرأى الشعب؟ وسأقول لك: صدقتَ فى شىء وغابت عنك أشياء لأنك لست مدخنًا، لكنك لو كنت مدخنًا.. لعرفت مدى أهمية سحب " النَفس" فى غِلّ، ثم حبسه فى صدرك، ثم إطلاقه باستمتاع فى وجه الزمن، ليأخذ معه آلامك وحسرات روحك. وإن كنت لا تصدّق.. فاسأل جموع المدخنين. طيب.. سيبنا من السجائر، وتعال نروح للأهلى والزمالك. ألست معى فى أن الماتش الأخير بينهما، كان الشوط الأول منه لصالح الأهلى بامتياز.. بينما كان الشوط الثانى لصالح الزمالك؟ لكن ولأن أكثرية المصريين أهلاوية، فإن الرأي العام ابتهج جدًا لفوز الأهلى، مع أن العدل كان يقتضى التعادل.. فكيف إذن نستند إلى رأى "الرأى العام" فى الحكم على الأمور ؟ آآآآه.. ها أنت تعود لتصرخ فى وجهى: يا حضرة.. ما علاقة الزمالك والأهلى بالرأى العام؟ وسأقول لك: أليس الأهلاوية والزمالكاوية هم الشعب ( يعنى الرأى العام)؟ فكيف تراهن على حيدة وموضوعية حشود تتلاعب بها صافرة حَكَم، ومعه حاملان للراية؟ تضحك؟ تقول: يا عم كلمنى جَد؟ إذن خذ هذه. فى قضية جزيرتى تيران وصنافير (أظن ليس هناك جد أكثر منهما الآن.. صَح؟).. فهل هناك إجماع فى الرأى العام بشأنهما بذمتك؟ كيف تريدنى إذن أن أحتكم إلى رأى عام منقسم، حيث يرى البعض مصريتهما، ويرى آخرون ( ومنهم نخبة قانونية وإعلامية محترمة جدًا بالمجتمع) أنهما ليستا كذلك؟ خُش معى على المثل الرابع- وهو جد الجد- وأقصد بها مسألة العلاقات مع الشقيقة السعودية. إنك لو تابعت الرأى العام في البلدين، للاحظت أن الذى تحكّم فيه هو الإعلام.. ورأينا تذبذبًا فى وجهات النظر، بين قائل إن السعودية شقيقة غالية على أرواحنا جميعًا ولا يجب أبدًا أن نخسرها، وقائل إن القاهرة يجب أن تظهر العين الحمراء.. فأى منهما تريدنى أن أتبع؟ هل تنكر أن العلاقات بين البلدين أهم من أن نتناولها بهذا التبسيط؟ وأن الدولتين تجمعهما علاقات استراتيجية عميقة تقتضيها دواعى الأمن القومى للبلدين، وأن الحكمة والعقلانية هما ما يجب اتباعه دائمًا، حتى لو حدثت أحيانًا بعض التوترات؟ كيف أسير وراء إعلام- فى كلا البلدين- متأرجح، يوم مع، ويوم ضد؟ يعنى إيه؟ تعال- أنا وأنت- نجيب من الآخر ورزقى ورزقك على الله. إن الارتكان إلى أسطورة ( الرأى العام عاوز كده).. مسألة محفوفة بالمخاطر.. وكم من مرة فى تاريخنا سعينا إلى استرضاء الرأى العام.. فجنينا من وراء هذا الموقف أشواكًا كثيرة، وذلك لسببين: .. أولهما، أن قياسات اتجاهات الرأى العام، موضوع علمى شديد التعقيد، وله شروط غاية فى الدقة، سواء فى اختيار عيّنة البحث، أو فى تفريغ النتائج، أو فى المعايير التى سنسأل الجمهور بمقتضاها أسئلة معينة تغطى كل تفاصيل القضية التى نحن بصددها، فهل هذا كله موجود لدينا؟ وهل أنت عندك مراكز تثق فى كفاءتها، تنجز هذا الأمر باحترافية ونزاهة وكفاءة عالية؟ أكاد أشك. والسبب الثانى، هو أن الشرط الأساسى لتكوين رأى عام صحيح ناضج يمكنك الاعتماد عليه، هو توافر آليات ديمقراطية حقيقية، وهى – برضو – ليست موجودة عندنا، ومنها الأحزاب السياسية الحقيقية ( وليست الكرتونية)، وجماعات الضغط المنضبطة، وتنظيمات المجتمع المدنى ( غير الساعية إلى الربح ولهف فلوس الأجانب.. بل الساعية بحق لخدمة المجتمع)، وكذلك وجود إعلام رشيد مهنى ذى مصداقية وكفاءة ( ربنا يوعدنا) ! وإذن.. واستنادًا إلى ذلك.. وبناءً على ما تقدم ( كما يقول أساتذتنا المحامون)، فإننا ننصح بالتالى: إياكم أن تسايروا الرأى العام فى كل كبيرة وصغيرة ينطق بها، أو تسيروا خلف أى واحد يجعجع، إذ ربما كان مُدخّنا شرهًا ( خرمانًا)، لم يجد السيجارة التى اعتادها، فخرج على الناس شاهرًا سيف حنجرته.. وصوته العالى ! لمزيد من مقالات سمير الشحات