تموج الأيام برحاياها، شروق يعقبه غروب، ونهار يخلفه ليل، وفى ثناياهم، تتقاذف الرياح الناس، بعصائفها، ترفعهم ثم ترميهم فى أودية من التيه أحياناً، وأحايين أخرى تلهيهم، فيقبعون فى واديهم ساكنين، ينتظرون الحدث مستسلمين، بعد أن فقدوا الاحساس بالقيم، وصار جل غايتهم مرور يومهم فى سلام، إلا من تمسك بفضائله، قابض على مبادئه، متدثر بأخلاقه، بإعتبارها زاده وقت الضيق، ودرعه لحظة الأزمة. هكذا أصبح مجتمعنا، مشتتا بين الصواب والخطأ، بعد أن اختلفت الرؤى، وتاهت المعايير، وراح الضمير فى سبات عميق، وطافت على السطح قيم محزنة، ترسخ لصواب مختلف وخطأً أكثر اختلافاً، استشرى الفساد بشكل مفزع، وتحول الفاسد إلى فهلوى، يستطيع جمع المال وتكديسه بمهارة، مع علم محيطيه بعاره، إلا أنهم تركوه، وفى أوقات أخرى ساعدوه، حين تعاملوا معه واحترموه، ومع مرور الوقت خرج من يقلدوه، وغُض البصر، وعاد ليرى واقعا مغايراً، موظفاً فى أحد الأماكن، وهى بالآلاف، راتبه الاجمالى بضعة من آلاف الجنيهات، وهو مصدر دخله الوحيد، تشاهده يمتلك السيارات والعقارات، ويعيش حياة الأثرياء، كما يشار إليه بالبنان، مما يستدعى الظن بأن هناك شبهة فساد، ولكن هل تستطيع محاسبته؟ لا، لأن القانون ثغراته سمحت له ولأمثاله بالفساد، ونحن نشاهد مئات الآلاف من المخالفات ترتع بأريحية شديدة فى كل أرجاء مصر، تزهو بجرمها، وصاحب المخالفة معروف، ومن سمح له بها لا يشعر بالخوف، ثم نظل نتحدث عن ضرورة محاربة الفساد، متناسين أو قل متغافلين عن أسبابه، ليزور الفرح قلوبنا حينما نسمع عن ضربات ناجحة تقوم بها الرقابة الإدارية، للفاسدين، محملين إياها بعبء كبير و تركة ثقيلة تراكمت عبر عقود مريرة، تجذر فيها الفساد وتوحش بدرجة مبكية، جعلته صلداً، وأصبح النجاح فى القضاء عليه يحتاج لتكاتف مجتمعى، أكثر تماسكاً وعزيمة، تقوده للفوز، وإلا سنظل ندور حول أنفسنا فى دائرة كبيرة جداً، فى حلقات كثيرة ومرهقة دون عائد مجد. ولكن قبل هذا وذاك، ما هو الفساد؟ هل كل ما يتعلق بالرشوة؟ التى يتم دفعها فى مقابل الحصول على منفعة غير قانونية، وفقط؟ أم أن هناك أشياء أخرى يستلزم الحديث عنها الخوض فى تفاصيل مزعجة؟ للإجابة عن الأسئلة السابقة لابد من طرح بعض الأسئلة الإضافية. على سبيل المثال هل الطبيب الذى يجرى عملية جراحية بلا ضرورة لكسب بعض المال، فاسد؟ وإذا كانت الإجابة بنعم كيف تثبت فساده؟. هل المدرس الذى يعطى دروسا خصوصية فاسد؟ وإذا اتفقنا على فساده، لماذا تسمح الدولة بذلك، وتترك عشرات المليارات من الجنيهات تستقطع من دخول المصريين، ثم تلقى باللوم على أولياء الأمور الذين هجر أبناؤهم المدارس من سوءاتها المعروفة، هربا للمدرس الخصوصى طمعا فى الحصول على النجاح لفلذات أكبادهم، رغم يقينهم أن مصر رقم 142 من 142 دولة فى جودة التعليم! هل الوظائف المحصورة على فئة بعينها، والتى لا تسمح إلا لأبنائها فقط بالولوج إليها، ولا يستطيع أى شاب الدخول بينهم إلا إذا كان من أصحاب الحظوة إن إستطاع، هل يعتبر ذلك فسادا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم. فالأمثلة هنا كثيرة، والقصص التى تأتى من خلفها مثيرة، ولا عزاء للمتفوقين أو حتى الطامحين من أولاد البطة السوداء. هل القرار الذى يأخذه وزير، أو مسئول ما بتهيئة الظروف لأحد موظفيه بتوليه منصباً معيناً، رغم عدم أحقيته بهذا المنصب، قرار فاسد؟ و إذا كانت الإجابة بنعم، فما بالنا بقرارات أخرى كثيرة تم إتخاذها تحت زعم الصالح العام وتجرعنا من ورائها المر والعلقم، وفى شأنها سيقت المبررات والحجج، كما ألف العازفون مقطوعات موسيقية فريدة تسحر الآذان، وتخدر القلوب المجهدة، حتى نقنع بها! هل عدم القدرة على حصار القمامة والقضاء على أزماتها، وآثارها السيئة، وما تسببه من أمراض مزمنة، تستدعى إنفاق مبالغ مرهقة، فى الوقت التى تتباهى الدولة بنجاحها فى القضاء على فيروس «c»، وهو فى الحقيقة إنجاز، وفى مقابله، تثار كل علامات التعجب، لماذا نتراخى فى علاج أزمة القمامة، وما يتبعها من تداعيات، ثم نُجهد لبحث علاج مخلفاتها، فهل يمكن أن نقول على هذا الوضع المزرى فساد؟ وهل الواسطة والمحسوبية واستغلال النفوذ، فساد؟ فإذا كانت إجابة الأسئلة السابقة وأسئلة كثيرة مشابهة، قد تأتى فى أذهانكم بنعم. فماذا نحن فاعلون؟ هل تتولى الرقابة الإدارية زمام الأمور بمفردها، ومن ثم نمارس طقوس حياتنا اليومية بنفس الوتيرة، وتعلو وشائج الفرحة وجوهنا، وتبتهج ضمائرنا، تكسوها السعادة بعد إقناعها بسلامة موقفنا. أم أننا فى أشد الاحتياج إلى تصحيح الأوضاع بصدق، واضعين نصب أعيننا هدفا واحدا، أنه لا صلاح ولا فلاح إلا بإعادة ترتيب الأوراق المبعثرة، من خلال آلية حازمة، معصوبة العينين، وفق أجندة محددة الأبعاد، تعلن الحقوق والواجبات بعد توصيفها، تعلى قيم العمل والبناء والشفافية ، تقدس الشريف وتعينه، وتجرس الفاسد وتهينه، حتى نعود إلى الطريق السليم، الذى يخرج بنا من نفق محصورين فيه منذ سنيون طويلة، كان الصبر فيه بديلا إجبارياً للسواد الأعظم من الناس، علنا نستطيع زراعة بذور الأمل، وليأت يوم نجنى فيه ثمارها. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم