إياك أن تسقط فريسة سائغة فى فخ الظن أن تنظيم داعش الإرهابى لا يزال عفيا وقادرًا على تسديد الضربات الموجعة وإيلام الغرب وأمريكا اللذين يحلق فوقهما حاليا طائر الخوف المرعب، ترقبا لمكان وتوقيت الضربة التالية الدامية لذئاب ووحوش داعش المنفلتة، الذين يتفننون فى اختيار وسائلهم التدميرية الكفيلة بايقاع أكبر عدد من القتلى والمصابين ممن ينعتونهم ب «الكفار» المارقين. إذ إن التوصيف والتشريح الدقيق للمشهد يعزز كثيرًا فرضية أن التنظيم فى النزع الأخير، وأنه قاب قوسين أو أدنى من هزيمته عسكريا على أرض المعركة الدائرة بالعراق وسوريا وليبيا وغيرها من البلاد التى استوطنوها وانتشروا فى ربوعها كالوباء، وأن قواه وقياداته سوف تتبعثر وتتشتت فى الجبال والوديان ووسط المدن العربية والإسلامية والغربية، وسيتحول زعيمهم أبو بكر البغدادى إن كتبت له النجاة لنسخة كربونية من سلفه على مضمار الإرهاب أسامة بن لادن زعيم القاعدة، الذى اختبأ ردحا من الزمن فى تلال أفغانستان الشاهقة، هربا من ملاحقات الأمريكيين بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر إلى أن تم اصطياده فى منزل بإحدى المدن الباكستانية. فقد وقع داعش فى خطأ قاتل استحق عليه العقاب الأليم ممن شاركوا فى صناعته وتضخمه، بعدما اعتقد أنه أصبح قوى الشوكة ويقدر على الخروج من عباءة مموليه ومشجعيه، وأولهم الغرب الذى استخدم التنظيم كأداة فى لعبة الأمم الناشبة على رقعة شطرنج الشرق الأوسط، وكانت حسبته مبنية على أساس أنه مادام نشاطه يقتصر على الحيز المرسوم له، ويقتل بنى جلدته من المسلمين تاركا هامشا صغيرًا لوقوع ضحايا أجانب فلا بأس من التعايش معه وترويضه، والضغط على وتر القلق من قبل الدول التى يظهر فيها لتنشيط مبيعات الأسلحة بمليارات الدولارات، والاستعانة بخبراء أمنيين غربيين وأمريكيين لتقديم المشورة والرأى لوقف الزحف الداعشي، وفى الحين ذاته يتخلص من مخلفاته من المتطرفين والمرضى النفسيين الراغبين فى الانسياق خلف سراب «الخلافة الإسلامية» فى بقاع الأرض بتصديرهم للمنطقة، وإشباع رغباتهم الدفينة فى العنف السادى فى أقبح وأحط أشكاله، فما أسهل تبرير النوازع البشرية المنحطة بتزيينها بغلاف ديني، وارتداء ثوب التقوى والعفاف والصلاح. غرور القوة الداعشى التابع للتحول المفاجئ والمباغت للتنظيم لحركة عابرة للحدود دفعه لمناطحة الغرب وأمريكا بضربهما فى عقر دارهما ككارت إرهاب، وتأكيدا لأنه شب على الطوق وسيخوض اللعبة بشروطه وليس بقواعد أسياده بالمنطقة وخارجها، وفعل كما فعل بن لادن الذى تربى فى كنف المخابرات المركزية الأمريكية ال «سى.آى. ايه» الدافئ بتخطيطه لمهاجمة نيويوركوواشنطن صبيحة الحادى عشر من سبتمبر، وهو الهجوم الذى كان إيذانا بأفول نجم القاعدة وتكسير عظامه، وقاد أمريكا لاحقا لغزو أفغانستان ومن بعدها العراق، وحاولت واشنطن حينها باستماتة شديدة إيجاد رابط بين منفذى الحادى عشر من سبتمبر والرئيس العراقى الراحل صدام حسين، وها هو التاريخ يعيد نفسه مع داعش الذى خدمته ظروف التحلل والتفسخ والفوضى فى بلدان الربيع العربي، وأخطاء الأنظمة فى العراق على وجه الخصوص لاكتساب أتباع ومتعاطفين وخلايا يقظة ونائمة، ورفع شعار نقدم خدماتنا لأعلى سعر. بما أننا اتفقنا بصورة أو بأخرى على اقتراب سقوط داعش عسكريا مهما طال الأمد، ومهما أبدى من مقاومة وبذل من جهد لتجميع صفوفه فإن علينا مواجهة أنفسنا بتساؤل صعب يدور حول ما إذا كنا قد استعددنا وجهزنا عدتنا لحقبة ما بعد داعش، وللمعركة الفكرية الأشرس والأعنف من مجابهته فى ميادين القتال للقضاء على نهجه التكفيرى الذى لقى رواجا وشيوعا سريعا؟ مما أراه وأتابعه يؤسفنى القول إننا فى العالمين العربى والإسلامى نؤدى دور المشاهد الصامت المكتفى بمتابعة ما يفعله الغرب، وأقصى ما نقدمه لا يخرج عن تصريحات لا تقدم ولا تؤخر، وكتيبات انشائية عن ضلال الداعشيين، وسوء تفسيراتهم للنصوص الدينية وفساد استدلالاتهم، وأنهم إلى زوال .. إلخ، ونترقب ما يحدده الغرب المنشغل بالتخديم على مصالحه وعلى خططه المستقبلية للمنطقة، وتوزيع الأدوار فيها. وسط كل هذا لم نر مؤلفات يُعتد بها لتفنيد مناهج الدواعش وكشف زيفها، ولم نعثر على ما يشير إلى محاصرة المواقع الداعشية على الشبكة العنكبوتية ويبث من خلالها آلاف الرسائل يوميا تغرى بانضمام المزيد من المتطلعين للمغامرة والتنعم بعالم ألف ليلة وليلة فى الشرق الأوسط الذى يصوره الدواعش، ولم ندخل تعديلات على مناهجنا التعليمية البالية بالقدر الذى يجعلنا مطمئنين إلى أنها ليست من بين العوامل المساعدة على تمهيد الأرضية للفكر التكفيرى. لم نر تحركات جدية لمعالجة التشوهات ومواضع الخلل الموجودة فى المجتمعات العربية وأسهمت فى تهيئة الأرض لتنامى الفكر الداعشي، مثل الحرمان الاقتصادى الذى يعانيه المواطنون فى بعض البلدان، واحتكار أناس يعدون على أصابع اليد الواحدة للثروات وعدم عدالة توزيع عوائدها، وضعف وغياب الخدمات العامة التى ينتظر المواطن ان يتمتع بها فى بلده، وتعثر الانتقال الديمقراطى، وإثارة الفتن الطائفية بين السنة والشيعة تارة وبين المسلمين والمسيحيين تارة أخري، وتراجع هيبة الدولة وعدم إحكام سيطرتها على البلاد، ولعل النموذج الأقرب والأبرز كان فى العراق وليبيا. القادم سيكون شاقا جدا ويلزمه استعدادات مبكرة ومدروسة، والتلكؤ سيكون مردوده اتساع رقعة مسلوبى الإرادة والعقل من معتنقى الفكر التكفيرى، فاغتنموا الفرصة قبل ضياعها وغادروا شرنقة رد الفعل إلى الفعل. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;