فى الشأن القبطى وهمومه يتفوق الهمس بمراحل على البوح والمباشرة، فالأقباط يتهامسون فيما بينهم وفى جلساتهم ومنتدياتهم الخاصة عما يقلقهم ويخيفهم ويقض مضاجعهم، وقلة منهم تخرجه للنور، خشية سوء التفسير والتأويل، واتقاء التعرض لدفعة جديدة من حملات الكراهية والتعصب الدينى التى يقودها أشخاص وجماعات تخاصم قيم التسامح والمودة والتعايش تحت سقف وطن يحتمى ويستظل به الجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم وتحيزاتهم الدينية والفكرية. الأنكى أنه لا يجرى التصرف مع الهم القبطى وتفاصيله على أنه جزء من الهم العام الذى يؤرق بلادنا وناسها، ويُنظر إليه على أنه حالة خاصة عارضة تظهر كل حين وتتم مواجهتها بتناول بعض المسكنات القوية، وما إن تخف وطأة الصداع المصاحب لها نعود لنقطة الصفر دون حلول جذرية قاطعة تقينا شرور وأوجاع الفتن الطائفية ومشتقاتها، وتحافظ على نسيجنا الوطنى ككتلة واحدة متماسكة لا يهزها اعتداء هنا وانفجار هناك. وما من شك فى أن تفجير الكنيسة البطرسية الجبان كان حدثا مؤلما لجميع المصريين الذين هبوا لإظهار تلاحمهم ومساندتهم لأهالى إخوانهم الذين قتلوا غدرًا وهم يصلون، ووقفت الدولة فى اعلى مستوياتها إلى جانب المكلومين والموجوعين، لكن الواقعة المفجعة جددت الحديث عن الثمن الذى يدفعه الأقباط جراء مواقفهم السياسية الداعمة لثورة الثلاثين من يونيو، وما ينتظرهم من مفاجآت قاسية فى مقتبل الأيام مع استعدادهم لموسم الأعياد. فى كل ما سبق كنا نرجع لاستخدام نفس القماشة القديمة بكلام معسول لا غبار عليه عن المصير الواحد، وأنه لا يمكن لاحد ضرب الوحدة الوطنية، وأن المسلمين والمسيحيين على قلب رجل واحد، وأنهما سيدحران معا الإرهاب الغاشم، وتتقاطر الوفود على الكاتدرائية لتقديم العزاء فى من قضوا نحبهم .. الخ. وسط كل هذا لم نلمس من المجتمع وأركانه ما ينم عن أنه بات جاهزًا ومتهيئا تماما لمناقشة صريحة وواضحة للهم القبطى والخروج بقول فصل بصدده، حتى لا نجد أنفسنا نرتد لأحاديث عن بدهيات فى كل مرة يتعرض فيها مصريون يدينون بالمسيحية لمحنة مماثلة. البند الأول فى الهم القبطى مرتبط «بالكراهية» وهناك بالفعل من يتعمد الحض على كراهيتهم وتصويرهم فى صورة من يأخذون أكثر مما يستحقون، ويتحكمون فى مفاصل الاقتصاد والمال، ويمارسون ضغوطًا على الدولة لحصد مزيد من المكاسب والنفوذ، ويستقوون بالغرب وبأمريكا، ولا يكفون عن محاولة «تنصير» بعض المسلمين وغيرها من الأقوال التى تحفز البسطاء الذين لا يُعملون عقولهم وتستعديهم على الأقباط، ويهيئون بيئة خصبة لاستهدافهم. إذن مطلوب تجفيف منابع الكراهية لكن كيف يتحقق ذلك؟ توجد عدة سبل لتجفيفها، أو على أقل تقدير جعلها فى الحدود الدنيا بما لا يشكل خطرًا آنيا ومستقبليا على بلدنا ومواطنيه، منها أن يكف بعض مشايخ السلفية عن إيغار الصدور بفتاوى وخطب نارية عن عدم جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، وتحقيرهم والتقليل من شأنهم، وإبداء الشماتة فيهم لدى تعرضهم لمصاب ما. ويلزمنا إصلاح عاجل للخطاب الدينى من الطرفين وليس من طرف واحد، لأنه مثلما توجد أصوات شاذة تبث الكراهية بين المشايخ والدعاة هناك نظراء لهم على الجانب الآخر، وأن يطبق القانون بصرامة ودون تهاون ودون استثناء على من يحضون على الكراهية ويزدرون الأديان، ولا يكون فيها معايير مزدوجة، وبذلك يسود الوئام والتراحم بين مكونات الأمة، وأن يفهم القريب والبعيد أن الله عز وجل خلق الجسد يضم بين جنباته وأضلاعه الكثير من الأجهزة والأجزاء التى لا يقدر على الحياة دونها، وهكذا الأوطان، فنار التعصب الدينى تحرق فى طريقها الكل ولا تستثنى أحدا . أيضا على مناهجنا التعليمية أن تكون ساحة لممارسة التسامح والمواطنة، وأن تحرص على إيراد نماذج قبطية أسهمت وشاركت قديما وحديثا فى تحديث مصر والدفاع عنها فى المحافل الإقليمية والدولية، وأتوجه بسؤال لوزارة التربية والتعليم عما إذا كانت أوردت فى مناهجها المفترض أنها تطورها حاليا شخصيات، مثل لويس عوض، ويوسف جوهر، وغالى شكرى، وإدوار الخراط، ويوسف الشارونى، وتوفيق حنا، وألفريد فرج، ونبيل راغب، وماهر شفيق، ونجيب الريحاني، ومكرم عبيد وغيرهم من المثقفين والمفكرين والفنانين الأقباط جنبا إلى جنب شخصيات إسلامية كان لها اسهاماتها وحضورها الطاغى؟ الأمر نفسه فى التليفزيون، والإذاعة، والسينما، والأدب، فنادرا ما تجد شخصية مسيحية، وإن وجدت تكون عابرة، وفى المحاولات القليلة فى السينما التى أقدمت على التطرق للعلاقة بين المسلم والمسيحى كانت تثار الاعتراضات من جهة الكنيسة أحيانا ومن الأزهر أحيانا أخرى فكان الرد فى إيثار السلامة والابتعاد عن هذه المنطقة الشائكة برمتها حتى لا يزج بصناع العمل فى مستنقع التعصب الدينى وسوء الفهم والاستدلال. ويحزنك أن السينما المصرية كان لها السبق فى الماضى فى معالجة موضوعات معقدة مرتبطة بعلاقة المسلمين والمسيحيين، مثل فيلم «الشيخ حسن» عام 1955 الذى ناقش زواج شيخ أزهرى بمسيحية ونظرة المجتمع لهما، وحينما كان نجيب الريحانى يدخل ولا يزال السعادة والسرور علينا بأفلامه لم نقل يجب ألا نضحك لأن البطل يدين بالمسيحية، ولم أجد منتجا متحمسا مثلا لإنتاج فيلم عن بطرس غالى الأمين العام السابق للأمم المتحدة. البند الثانى فى الهم القبطى مسألة معاملة الأقباط كمواطنين من الدرجة الثانية، وأنهم مهمشون وظيفيا وقلة قليلة منهم يصلون للمناصب القيادية العليا، هذا شق يحتاج لدراسة ورد عملى عليه، وإيضاح أنه لا تمييز وأن المعيار الحاكم هو الكفاءة ولا شيء غيرها، تلك بعض بنود الهم القبطي، فالمساحة لا تتسع لإيرادها جميعا، وآثرت اختيار أبرزها والأكثر الحاحا، فنحن نريد مصريين أكفاء نابهين يخدمون وطنهم ويعلون من شأنه ووضعه سواء كانوا مسلمين أو اقباطا. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;