(( كان يهتف بصباح الخير وهو يضرب بأصبعه جرس دراجته ويبدل بقدميه مسرعا على كورنيش النيل فينتبه المارة باسمين ،ويزداد العشاق عشقا ويقبضون أكثر على ايدى بعضهم البعض ... يظهر فى التاسعة صباحا بالضبط وكأن الله قد خلقه للتو ، يعتلى دراجته وعلى رأسه قفص فارغ ويرتدى بالطو مفتوح تبدو منه سيقانه العارية ويصرخ بأعلى صوته : صباح الخير عادى ... ايه اللى هيجرى يعنى؟؟؟ يختفى هو أولا ثم يختفى صوته وصوت جرس الدراجة ويبقى الشارع من بعده أكثر أصباحا ويظهر الخير فى أشعة الشمس منعكسا على كل نقطة فى نهر قديم يمر ...)) صباح قاهرى بحت اوشك ان يختفى من شوارعها وحارتها وكورنيشها الشهير لم يعد هناك من يسعى على رزقه صاخبا كما كان ، الحوانيت والدكاكين والسوبر ماركتات اذا جاز الجمع والبوتيكات والمحلات التى استحدثتها الاتصالات الحديثة لبيع دقائق تواصل للجمهور واكسسوارات شتى وشواحن لموبيلات جائعة للشحن لا تفتح ابوابها فى المناطق الشعبية الا بعد الظهر ، عليك ان تظل قابعا فى بيتك الى ان تقترب الساعة من الواحدة ظهرا لتحظى باحدهم يفتح فى تردد وبوجه عابس دكانه ، وعليك ان تنتظره قرابة النصف ساعة حتى يصطبح ويبتسم فى وجهك ويسألك دون ضجر : ماذا تريد؟؟ ، اصحاب محال الرزق الخاص لا تفتح ابوابها مبكرا فى المناطق الشعبية ، لا رغبة لدى أحد الان فى الاستيقاظ مبكرا من أجل اى شيء ، العاصمة صارت كسولة فى مناطق عدة ، لا ضرورة لديها فى السعى المبكر ، وعلى الرغم من ان تاريخ تلك البلاد وثقافتها واعرافها وتقاليدها صنعت للاستيقاظ مبكرا العديد من الحكم والمواعظ الا انها ضربت بكل ذلك عرض الحائط ، كانت رحلتى للبحث عن شاحن للموبيل او شراء قلم او رزمة ورق صباحا تبوء بالفشل ، الابواب جميعها مغلقة تمر عليها اشعة الشمس ساعة تلو الاخرى وهى على حالها لن تفتح قبل الظهيرة ، ربما شدة الحر تدفع الناس الى ذلك لكن الشتاء لا يغير من الامر شيئا. الوجوه الصباحية البشوشة تختفى بالتدريج ويحل محلها وجوه غاضبة لم تنم جيدا ولم تحظى بقسط من الراحة او السعادة الاذان مشغولة بمكالمات لا تنتهى والرؤس منكبه على شاشات المحمول الضيقة ، المقاهى مكتظة بزبائن لا يشيع بينهم المرح ، الشباب يملئون الشوارع ليلا والعجائز هم من يمارسون البيع بلا همة ولا امل . اختفى الصباح بتفصيله المعتادة اختفى بما يحمل من امل وفرحة وهمة ونشاط وحل محله صباح بليد ميت ، ربما يستبدلون ذلك الحراك الصباحى بالسهر الليلى ولكن ذلك لا يحدث غالبا مازال الليل المتأخر للخطرين غالبا اين اختفى الصباح العادى ؟؟؟ فى العواصم البعيدة حيث تختفى الشمس يستيقظ الجميع ويخرجون كالجراد المنتشر يبتلعهم مترو الانفاق ويلفظهم على ابواب العمل يقضون الوقت الفاصل بين البيت والعمل فى الصمت والقراءة وربما الابتسام الخفيف اذا اقتضى الامر لكن الشمس هنا تصحب الناس من اول النهار الى اخره لكنها لا تجد احدا يصحبها فى اول اليوم اختفى الصباح القاهرى المعتاد وسارت التكاتك الكئيبة فى الشوارع والحارات ، صار المجتمع يميل الى الليل اكثر ليل يحتاج الى طاقة وكهرباء وصبر - فى بلد فى امس الحاجة الى الطاقة والكهرباء واستبدل الناس طاقاتهم الطبيعية وشمسهم الممنوحة بطاقات صناعية مكلفة ، تغير شيء اساسى فى كيمياء البشر فى مصر ، علينا ان ننتبه اليه اختفى الشاب الذى يوزع الصباح على المارة ، ليس هناك فى الوجود ابهى من شباب يتحركون فى الصباح بصخب وسعادة نحو ارزاقهم المتوقعة ، الشباب والصباح متلازمة الحياة الاقوى ومصر بلد ثلثا سكانها من الشباب وصباحها اكثر صباحات الارض شمسا وبهاء فاين اختبأ ذلك الصباح ؟؟؟ وحينما يختبأ الصباح من مكان ما يظهر الفقر، وللصباح امارات مبهجة ستبحث عنها كثيرا فى القاهرة ولن تجدها لم يتبق منها الا تلامذة يستيقظون بالضرب للذهاب الى مدارسهم امهات تصل صرخاتهم الى الشارع فى محاولات يائسة لايقاظ اطفال سهروا حتى وقت متأخر ليذهبوا الى المدرسة عابسين ساخطين يرددون صارخين جمل مكررة خلف مدرس لم ينم جيدا لسهره فى دروس خاصة لن تفيد احدا ، اختفى الصباح من الشارع والبيت والمدرسة والمصلحة الحكومية والمستشفى وحل محله وقت عجيب بلا أمارة وقت باكر لا يسمى صباحا بالتأكيد ، الصباح فى المدن هو الدليل الاكبر على حياتها وبقدر جمال صباح كل عاصمة وبهاءه بقدر رؤيتك ومعرفتك وتحليلك لتلك العاصمة وسكانها الصباح اختفى من مصر وهى البلد التى قدست الوقت واعلت من شأن الشمس حتى جعلتها رمزا من رموز العبادة الصباح يختفى من بلد كادت ان تخترع الصباح ، الصباح يختفى من بلد لجملة صباح الخير فيها مذاق يختلف عن كل البلدان ، الصباح الذى اختفى علينا جميعا ان نبحث عنه وان نستعيده بكل الطرق وكافة السبل حتى تحل البركة ويبتسم النهر القديم ونستحق ان نقول مبتمسين : صباح الخير