بدت عبارة الكاتب الفذ فرانز كافكا «أن تكتب معناه أن تهجر معسكر القتلة»، عنوانا على جملة من القيم الفكرية والجمالية الخالدة لكاتب مجدد فى تاريخ الإبداع فى العالم، فالكتابة هنا تصير انحيازا للمقموعين الذين ينتجون بلاغة جديدة لا يمكن لها أن تساوى بين القاتل والمقتول، حتى لو تصدرت الواجهة لافتة تعيسة تحمل اسم «العنف المتبادل»، وهنا أيضا يصير المثقف فاقدا للبوصلة بعد أن تخلى عن معنى الضمير الإنساني، وأصبح يعيش على الرطان الكاذب، بدلا من أن يدافع عن الحياة فى مواجهة أولئك الذين يصنعون الموت كل صباح. فى بلد تتآكل نخبته، ويستشهد أبطاله من الجنود البواسل فى رمل سيناء، وتترك مؤسساته ووزاراته المعنية بالتثقيف والتنوير والتعليم الخلاق وطنها فى قلب المعركة وحيدا بلا ظهير فكري، فالجهلة يتسيدون المشهد، والفشلة يدعمون القتلة بحمقهم وضعفهم وحفاظهم المزرى على كراسى المؤسسات الخربة. الفشلة يحاصرون الوطن من كل اتجاه، ويغتالون أنبل ما فيه، يغتالون ثقافته الوطنية وكفاءاته. فى اللحظات القاسية من عمر الأمم لا يبقى أمام الشعوب سوى ضميرها العام، هذا الضمير الذى يخلقه التراكم الحضاري، وتنتجه الهوية الوطنية، ويعبر عنه ثلة من المفكرين الحقيقيين الذين لم تلوثهم الأنظمة المستبدة، ولا التمويلات الخارجية، ولا الأفكار الداعشية بتجلياتها الجهادية والإخوانية والسلفية القابضة على الماضى البليد بإرثه الرجعي، وتخلفه المزرى الذى يليق بقطيع يحيا على السمع والطاعة، وليس بجماهير هادرة تحاول أن تتطلع بإباء صوب المستقبل. يخرج الشهيد البطل العميد أركان حرب عادل رجائي، قائد الفرقة التاسعة مدرعات من منزله، لتستقبله طلقات الرصاص الغادر، وينضم ببسالة لطوابير النبلاء الحقيقيين الذين لن تجدهم يوما أمام الكاميرات، ولا فى مواقع الصخب الإعلامي، وكأنهم راضون بأن يكون موتهم سببا فى أن يحيا الوطن ذاته. وسيكون من المؤسف حقا حين يغيب ولو ثمة بيان واحد يبلور خطابا معرفيا متماسكا فى مواجهة عصابات الإسلام السياسى تتبناه أي وزارة أو مؤسسة معنية بتشكيل العقل العام، فالجرذان يملأون المقاعد، والحمقى يتعاطون مع الإرهاب بوصفه شأنا عسكريا محضا، والثقافة الرسمية قررت منذ زمن الفرار من المعركة. ولا عزاء لمصر وناسها وأبطالها الحقيقيين! لا شيء يهم، هكذا يتصرف كثير من الساسة والمسئولين، هكذا تفعل المؤسسات الثقافية والتعليمية، فالكل مشغول بنفسه، بنجاته الفردية، بمكاسبه الرخيصة، بالأثمان التى يقبضها دون أن يسأل نفسه هل من ثمن ندفعه قربانا لوطننا؟!.فى مجتمعات الركون إلى الماضى يصبح العقل الطليعى هدفا للقنص، مثلما يصبح الجندى المدافع عن الوطن هدفا للقتل، ولضرب هذا العقل المتكلس يجب أن تضرب أصوله الفكرية الماضوية فى الوقت الذى يتم استئصال جماعاته الإرهابية من القتلة والدواعش بأطيافهم . وربما سيكون عاديا للغاية ومخزيا أيضا فى مناخات الخسة والتكفير تلك أن يتعرض العقل الطليعى لحال من التربص الأكاديمى من الرجعيين والمتحالفين معهم، أو لبلطجة من دواعش الثقافة ومتثاقفى البؤس العام. فى لحظات السقوط المدوى لجوهر القيم، ستجد مجموعة من أعتى الديمقراطيات المراوغة فى العالم تتحدث عن إدماج الإرهابيين فى المجتمعات واستيعابهم فى المشهد السياسي، وستجد أيضا القتلة الإقليميين من توابع السيد الاستعمارى الجديد يدعمون كل خنادق الإرهاب والتطرف، أملا فى واقع جديد، وسعيا لتفتيت كيانات حضارية لم تزل مؤثرة على الرغم من كل المحن التى تواجهها. وفى لحظات السقوط نفسها ستعلو فى الداخل أصوات من متثاقفى التمويلات أو أذناب العولمة الأمريكية لتدعو بصفاقة لا مثيل لها إلى المصالحة مع الخونة والقتلة والإرهابيين، لكن ينسى الجميع سواء أكانوا دولا كبرى، أو نخبا تلعب دور الزمار، أن الحياة والحرية والتسامح والجمال والعدل وكل المقولات الكبرى لا تسلك أبدا طريق العار والخيانة. على رمل سيناء، يقضى جنودنا البواسل أيامهم المجيدة، يزرعون الأمل، ويمتصون الموت، والجماعات التكفيرية التى ترفع راياتها السود، تستند على القتل باسم المقدس، وتستخدم الموروث الدينى فى الدفاع عن تصوراتها القاتلة، ونحن هنا فى قلب القاهرة أغفلنا تجديد الخطاب الدينى تماما، وتجاهلنا من الأساس حتمية مساءلة الماضي، وحينما برزت عبارة إنشائية أخرى تتحدث عن تجديد الخطاب الثقافي، سمعنا جعجعة ولم نر أثرا، فالمداخلات قديمة، والوعى بائس، ومثقفو المؤسسة موظفون طيبون خارج الزمن والتاريخ. تتعدد خنادق القتلة لتشمل الإرهابيين ومن والاهم، لتشمل هذه الذهنية الأحادية التى تختزل التاريخ المصرى فى كهف الميتافيزيقا، وتحوى معها الفاسدين والفشلة والمستبدين الذين يمنحون التيارات التكفيرية قبلة الحياة عبر تكبيل وعى الناس بالخرافة، واستبعاد قيم التقدم لمصلحة الجهل والتخلف وانحطاط المعنى. على صانع القرار المصرى أن يمنح نوافذ أكثر للحرية، والتجديد، والمساءلة، وأن تعى الدولة المصرية خطورة الملفات التى تهملها جراء انشغالها بالآنى والراهن، وبالتحديات الجسام التى تقابلها فى الملفين السياسى والاقتصادي، فالتعامل مع الثقافة بوصفها ترفا، وطريقة التسكين الكوميدى التى تتم، تعنى استبعاد الثقافة من بلورة الخطاب العام للدولة الوطنية، والثمن كما نرى فادح للغاية، ولا بد أيضا من تكامل حقيقى بين التعليم والثقافة لمواجهة الأفكار المتطرفة من منبتها، كما يجب على الإعلام أن يمارس دورا تنويريا تثقيفيا بحق، وهذا كله يجب أن يحدث عبر خطط وسياسات ثقافية وعلمية وإعلامية واضحة وممنهجة. أما عن الأبطال الذين يقاومون الموت بشجاعة حقيقية فنحن نثق فيهم تماما، ونثق فى قدرتهم على حسم المعركة مع الإرهابيين المدعومين من قوى الهيمنة على العالم. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله