في معركة عادلة ونبيلة تخوض الأمة المصرية حربا بلا هوادة ضد عصابات الرجعية والإرهاب, والعنف الدموي, والتي تسعي إلي إعادتنا إلي عصر الكهوف, وإلي تمريغ أنف الدولة المصرية العريقة في وحل التبعية السياسية لقوي الاستعمار الجديد تلك التي تدعم التطرف بوصفه سلاحها النافذ في تفكيك البنيان الاجتماعي المتماسك للدول الناهضة. ولأنها مصر ذات التراكمات الحضارية المختلفة, والتنويعات الثقافية المتعددة, كانت مصر بناسها وجماهير شعبها ومؤسساتها الوطنية جميعها في الميعاد, وبدت الدولة المصرية قادرة علي مجابهة جحافل التتر الجدد, والقادمين من براري الماضي التعيس, وبدا الشعب أكثر تلاحما مع جيشه الباسل, غير أن ثمة عوارا في المشهد الراهن, يمكن تلمسه في ذلك الأداء الباهت لوزارة الثقافة والتي كانت المتخلف الوحيد عن المعركة, مع أن مواجهة التطرف تبدأ بالأساس من هناك, فأنماط التفكير الرجعية الماضوية تحتاج نزوعا طليعيا تقدميا لمواجهتها, وتفنيد حججها الساذجة, وصوغ طريق أكثرمواعدة لأفق مصري جديد, يؤمن بالتنوع, وثقافة الاختلاف, ويمجد قيم التقدم والحداثة والاستنارة والإبداع بوصفها قيما أصيلة في تقدم الأمم والشعوب. يجب أن نكرس وباختصار- لثقافة السؤال, والتفكير الخلاق, وكل أطر المجاوزة والتخطي, ومغادرة مناطق الجبن العقلي, والسكونية, والثبات. لقد غابت الثقافة الرسمية منذ البداية وللأسف الشديد- عن مشهد الثورة الباكر في الخامس والعشرين من يناير2011, هذا الغياب الذي يتعمق خطره الآن بعد ثورة الثلاثين من يونيو2013, ففي اللحظة التي نواجه فيها أفكارا ماضوية تعيسة, تنتمي إلي قرون بائدة, وتصورات خارج اللحظة والتاريخ, تصنع الثقافة في زيها الرسمي البليد رطانا فارغا إما عبر نخب هزيلة متحالفة مع الموقف الأمريكي الاستعماري, أو نخب رجعية بالأساس, تقتات علي كل الموائد, وكلاهما مثقفو الاستعمار, ومثقفو الرجعية لا يدركون معني الأوطان ولا يعرفون قيمتها. وفي هذا السياق الآسن يغيب الصوت الثقافي الرسمي تماما, مثلما غاب من قبل مرارا وتكرارا, فلم نر مثلا- قوافل ثقافية تخرج إلي القري والنجوع والكفور المصرية, لتروي عطش الظامئين إلي ثقافة مختلفة, ومتجددة, ترفع- وباختصار- حال العتامة التي خلفتها التيارات المتأسلمة برجعيتها وتخلفها المزري, لم نر في الحقيقة الإمكانات الضخمة لوزارة الثقافة توضع في خندق الدولة المدنية الوطنية الجديدة بنت ثورتي يناير, ويونيو, فالسياسات الثقافية لم تزل كما هي, والوجوه الرسمية شاخت في مواقعها بوصفها تملك حضورا سرمديا عابرا للأزمنة!! فوزير الثقافة نفسه عمل مع كل الأنظمة التي تعاقبت علي حكم مصر, حيث عمل مع مبارك, ومع المجلس العسكري, ومع نظام الإخوان الأكثر رجعية وتخلفا في مفارقة بالغة الدلالة والأسي!, وهكذا الحال مع معاونيه ورؤساء هيئاته المختلفة. لماذا لا تذهب الفرق المسرحية التابعة لوزارة الثقافة لعمل عروض في الأقاليم المصرية المختلفة, معتمدة علي نصوص درامية حقيقية, تشكل حالة من الوعي الممكن لدي الجماهير؟ ما الخطة التي تعتمدها الوزارة في نشر الوعي الثقافي والمعرفي, وتقديم الوجه الطليعي الجديد للثقافة المصرية من أدباء وفنانين تشكيليين وموسيقيين وغيرهم؟ لماذا لا نستفيد من عروض مسرح الشارع مثلا؟ الثورة بنت التغيير الجذري هكذا الحقيقة, أما الدوران في المكان فمصيره الفشل والإخفاق, الثورة تحتاج قدرا أكبرمن الجسارة والوعي بماهية اللحظة ومهامها الجسام, لا الارتماء في أحضان المقاعد الوثيرة انتظارا للقفز مع من يربح! الثورة يجب أن تصبح خيار الثقافة الوحيد والحقيقي لصوغ عالم أكثر عدلا وجمالا وإنسانية, تستعاد فيه قيمة المثقف العضوي بوصفه حارسا للضمير الجمعي لأمته, عبر انغماسه في واقعه, وانحيازه إلي ناسه وجماهير شعبه, أما ذلك المثقف التقني الانتهازي الذي يؤمن بسيده ولا يؤمن بثقافته, فمصيره إلي الهاوية مع حلفائه من الرجعيين, ولا عجب في أن نجد مثقفين يرطنون كثيرا عن الحداثة, ويديرون مجلات فصلية, وكانوا خدما للوزير الإخواني السابق ولم يجدوا أدني حرج في التعاطي معه! أما المفارقة الحقة فتتمثل في أنه وبعد سنوات من الوهم الذي باعه عدد من مثقفي نظام مبارك القمعي حول فكرة التنوير, نكتشف نحن وبعد أكثر من عشرين عاما علي حقبة التسعينيات المؤلمة أن بؤر الإرهاب والتطرف والذهنيات الماضوية تنتشر في مصرنا العزيزة, وكأن ما كان من أمر التنويرمدفوع الأجر أشبه ب الكامو فلاش في لغة التصوير, فلو كان وباختصار هناك تنوير حقيقي لما وقعنا في براثن الإرهاب والتطرف, ولما وصل مرسي العياط بجماعته الرجعية إلي حكم البلاد يوما ما, وفي غفلة من الزمن. نريد تنويرا حقيقيا لا زائفا, ابن الخيال الجديد, والنخب الطليعية, والنظر المختلف للعالم والأشياء. لا تنوير الكهنة, والمزيفين أبناء كل الأنظمة, وكل السياقات! إن صمت الثقافة الرسمية الآن عن مجابهة الإرهاب فكريا, أشبه بمن يهرب من المعركة, ومن يفر من الميدان, الصمت هنا خيانة, وجريمة, مثلما كان الصمت واليأس خيانة كبري إبان حكم المتطرفين الذين لفظتهم ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة. لن تنفض مصر عن كاهلها غبار الرجعية بحق إلا إذا كانت لديها وزارة ثقافة حقيقية خارجة من رحم الثورة, ومؤمنة بناسها, وجماهيرشعبها, تتجه صوب تثقيف المصريين, لا الوصاية عليهم, وتسعي نحو خلق مناخ من الاستنارة الحقيقية, يكرس لكل المقولات الكبري في حياتنا, وبما يحفظ للأمة المصرية هويتها وخصوصيتها الحضارية من جهة, ويصلها بالمنجز الحداثي الغربي من جهة ثانية. ويبقي المعيار الرئيسي ممثلا في مدي قدرة المؤسسة الثقافية علي تنفيذ أجندة وطنية تقدمية للثقافة, تؤمن بالخيال الجديد, والتنوع الخلاق, وتدرك مسئوليتها تجاه ناسها وأمتها المصرية والعربية. وبعد.. ستخط الثورة طريقها رغما عن أنف الانتهازيين والمدلسين, وستظل معركة المثقفين الحقيقيين رأس الرمح في مواجهة العصابات الرجعية وحلفائها من الفاسدين, الذين يغتالون أنبل ما في هذا الوطن, يغتالون ثقافته الوطنية, ويغتالون مبدعيه, ويقتلون كفاءاته. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله