نقرأ الأدب لنفهم المزيد من أسرار النفس البشرية، والأدب الروسى يشكل كنزا لكشف خبايا الإنسان . ولقد قدم الأديب الروسى مكسيم جوركى ابداعات مميزة تنبض باحترام الإنسان وتتغنى بحياة صادقة بلا زيف ولا قهر. ولد مكسيم عام 1868وتوفي1936. اختار اسم جوركى كلقب مستعار له ويعنى باللغة الروسية (المُر) ليعبر عما ذاقه الروس من مرارة إبان الحكم القيصرى. من أهم ابداعاته رواية الأم ومسرحية الحضيض وسيرته الذاتية, خاصة جزءها الأول الذى حمل عنوان «طفولتي» والذى وصف فيه بشاعرية مرهفة علاقته بجدته التى ربته وكانت أمه الحقيقية. فى «طفولتى» يصف جوركى ما كابده طفلاً من مرارة فريدة, حيث مرض بالكوليرا وكان والده يمرضه فأصيب بالعدوى ومات بها فحملته أمه مسئولية موت والده. وتزوجت والدته مرة أخرى بعد وفاة الأب. وحاول مكسيم «المُر» قتل زوجها عندما ضرب أمه وهدده بالقتل إذا آذى أمه ثانية, فطردته إلى بيت جده حيث حكت له جدته الحواديت باسلوب جذاب جعلته يحب الأدب, وكانت العذوبة الوحيدة فى طفولته المريرة . وفى (طفولتي) يحكى مكسيم كيف شرح له جده الأمر بعد موت أمه وخفف مرارته: «لابد لكل إنسان أن يموت, حتى العصافير تموت ، إن كنت تريد فسوف أضع العشب حول قبر أمك, هل تحب ذلك ؟ سوف نذهب إلى الحقول الآن ونجمع ذلك العشب ، سوف نقتطعه ونضعه حول القبر ولن يكون هناك قبر هنا ينازعه جمالا». ويضيف مكسيم الطفل المُر: أعجبتنى هذه الفكرة ، فذهبنا جميعاً الى الحقول بعد أيام من وفاة والدتي. وقال لى جدى : حسناً ، يا الكسي, إنى بالضبط لا أستطيع أن أبقيك ميدالية معلقة فى عنقي. ليس لك من مكان بعد اليوم ههنا ، فقد آن لك أن تخرج إلى ما بين الناس.. وهكذا خرجت إلى العالم» . عاش مكسيم يتيم الأب والأم وهو فى التاسعة من عمره، تنقل بين المهن لكسب العيش وهو طفل, وتوفى اخوته جميعا. عمل مكسيم بستانيا وصيادا وحارسا فى محطة القطار, وأعمالاً أخرى. ويقول فى سيرته: «فى الخامسة عشرة من عمرى رغبت بشدة فى التعلم واتجهت إلى قازان لاعتقادى أن العلم يقدم مجانا، وكت مخطئا. عملت بمخبز لصنع المعجنات مقابل روبلين فى الشهر. وكان العمل هناك من أشق الاعمال التى مارستها فى حياتى». وفى عامه التاسع عشر حاول الانتحار لشدة الفقر؛ فحصل على مسدس واطلع على تشريح جسم الانسان ودرس المكان الذى يوجد فيه القلب ليوجه المسدس نحوه وأطلق النار على نفسه ولكنه نجا من الموت. وتعرف فى قازان على حياة المشردين عن قرب, ولمس أوجاعهم ليعبر عنها فيما بعد فى رائعته (الحضيض), التى تدور أحداثها حول المتشردين البائسين الذين يناضلون ويفعلون المستحيل فقط للبقاء بالكاد على قيد الحياة. عشق مكسيم القراءة, وأول ما كتب يتصدره إهداء لأحد أصحاب الأعمال لأنه سمح له بالاطلاع على مكتبته. وقد أجاد جوركى وصف مرارة الروس فى روايته (الأم) التى تجسد عقيدته الاشتراكية, حيث معاناة الأم مع زوجها السكير الذى يتنفس طعم المرارة لسوء أوضاعه كعامل يتقاضى الفتات, بينما يسعى الابن وصديقه لتخليص العمال من الظلم. وتقوم الأم بحماية ولدها فتخفى المنشورات والأسلحة ويموت زوجها فى معركة لا ناقة له فيها ولا جمل ويُسجن الابن وتكمل الأم مسيرته لتحقق حلمه ويتحرر السجناء ويقتل الابن وتواصل الأم السعى لتحويل حلمه لواقع. لا شيء يعبر عن معتقدات وجوهر الكاتب أكثر من أقواله. ومن أقوال مكسيم جوركى التى ترسم لنا ملامح وجهه: أقدِّس استياء الإنسان من نفسه، فهوالذى يدفعه إلى الأفضل . تبدو السعادة صغيرة عندما تكون بين أيدينا ، لكن اتركها، وسوف تدرك حجمها وقيمتها . لا نستطيع أن نعمل من دون فلسفة ، فهناك لكل شيء معنى مخفى يجب أن نعرفه. عندما يكون العمل متعة تكون الحياة مبهجة، أما إذا كان واجبا فهو عبودية لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تقتلوا روحاً بُعثت من جديد. واصل قراءة الكتب ، ولكن تذكر أن الكتب تبقى كتباً وأن عليك أن تفكر بنفسك. إن اليوم الذى لا يمر بك دون أن تعرف فيه شيئاً أو تكشف فى نفسك جديداً ، اعلم أنك لم تعشه ، وأن جزءاً من حياتك قد ضاع منك إلى الأبد.