"كلما ذاق المرء المزيد من المرارة زاد جوعه لمباهج الحياة".. عبارة قالها الروائي الروسي، وأحد أهم أدباء القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مكسيم جوركي، الذي خلقت المُعاناة حياته، وكان ثائرًا بشكل كافٍ لينخرط في السياسة ويقترب من عالم المؤامرات، وفي الوقت نفسه كان مُهتمًا بمُعاناة البسطاء. ولد "ألكسي مكسيموڤيتش پِشكوڤ"، في 28 مارس عام 1868 في مدينة نجني نوفجورود، وفي التاسعة من عمره مرض الطفل ألكسي بالكوليرا، وانتقلت العدوى إلى الأب الذي كان يعتني به، فتوفي وبقيَ الطفل على قيد الحياة. وكانت الام تنتظر المولود الثاني الذي أطلقت عليه اسم مكسيم أيضًا، وتوفى هو الآخر، فيصف جوركي في كتابه " طفولتي" مشهد الطفل الصغير الراقد في تابوت في السفينة بينما أمه بقيت تنظر إليه بنفور وحملته الذنب في وفاة والده وترملها. وعندما تزوجت أمه للمرة الثانية، اضطر جده إلى قبوله في بيته، رغم عدم رضاه عن زواج ابنته؛ وتولت تربيته جدته، وكان سوء حالة الجد المالية جعلته يرسل الصبي للعمل في محل بيع الاحذية، ثم خادم، ولكنه هرب من هناك بعد فترة قصيرة، وتنقل بين العديد من المهن كان أصعبها العمل في مخبز؛ ولم تدم حياة جوركي مع أمه لفترة طويلة بعد زواجها الثاني، فقد حاول خلالها قتل الزوج بالسكين عندما ضربها الأخير بالحذاء، فهدده الكسي بأنه سيقتله ويقتل نفسه اإذا ما اعتدى عليها مرة أخرى؛ فعاد إلى جده الذي طرده بعد عدة ايام من وفاة والدته. آمن جوركي بالأفكار الاشتراكية والثورية، فكرّس كتاباته لبحث القضايا الاجتماعية والدفاع عن قضية الشعب، ومن خلال ذلك طرح بقوة كل مبادئ الاشتراكية الواقعية؛ وبدأت رحلته مع الكتابة بنشر أعماله الأولى التي تنوعت بين القصة القصيرة وكتابات للمسرح نشرها بين عامي 1892 و1901 بتوقيعه "جوركي"، وهو اللقب الذي اختاره لنفسه ويعني باللغة الروسية "المُرّ"، وذلك من واقع المرارة التي كان يُعاني منها الشعب الروسي تحت الحكم القيصري، وهو ما انعكس بشكل واضح على كتاباته وبشكل خاص في رائعته "الأم". "من يشعر برغبة لا تقاوم في الانطلاق لا يمكنه أبدًا أن يرضى بالزحف".. في عام 1902 نشر جوركي مسرحيتاه "البورجوازيون الصغار" و"أهل الحضيض" واللتان ساهمتا في أن تبلغ شهرته الذروة، وازدادت حدة نزعاته الثورية، حيث أعلن مُعارضته للنظام القيصري الذي لم تكن روسيا قد ظهرت بها ملامح للخلاص منه، فقادته هذه المُعارضة إلى السجن إثر ثورة 1905، ثم تم نفيه إلى مدينة كابري في إيطاليا، وارتبط بصداقة عميقة مع الزعيم الشيوعي لينين. "ليس من المستحسن أن يكون للكاتب كثير من المعجبين".. وضع النُقاد جوركي في مرتبة عمالقة الأدب الروسي في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت مبيعات أعماله تزيد عن مبيعات أعمال تشيخوف، واعتبره كثيرون في الأوساط الأدبية الروسية يمُثّل الثقافة البديلةالتي كان يبحث عنها المجتمع بداية من أول قصصه "ماكار تشودرا"في جريدة القوقاز؛ وقال عنه الكاتب إيفان بونينفي فترة صعوده " أعجب به المثقفون الروس لحد الجنون.. وأصبح كل عمل جديد لجوركي حدثًا كبيرًا في روسيا بأسرها". أثارت هذه الشهرة انزعاج الكثير من معاصري جوركي من الكتاب المعروفين، وكان في طليعتهم تولستوي نفسه، رغم أنه اعتبره في البداية رجلًا حقيقيًا من الشعب لكونه جذب اهتمام القراء إلى الإنسان، وأدرك أن جيلًا جديدًا من الأدباء الواقعيين يظهر في روسيا ومنهم يمثلون مرحلة جديدة في الادب الروسي؛ ويرى بعض النقاد أنه لم يكن راضيا عن نجاحات جوركي بدافع الغيرة، خاصة بعد عرض مسرحيته "في الحضيض" في برلين وعواصم أوربية أخرى ولاقت نجاحًا منقطع النظير، وسجل تولستوي في يومياته نقده لأعمال جوركي ووصفها بأتها رديئة وزائفة؛ ولكن بقيت علاقتهما قوية حتى وفاته، بالرغم من أن زوجته كانت تشعر بالنفور من جوركي لدى زيارته للبيت. وفي 18 يونيو عام 1936 فارق مكسيم جوركي الحياة بعد أيام من المرض الشديد وغياب الوعي، وكان ستالين قد جاء لزيارته قبل الوفاة فقام الأطباء لهذا الغرض بحقنه بأبرة كافور لإنعاشه؛ وجاء في التقرير الطبي الرسمي أنه توفيَّ بسبب التهاب حاد في الفص السفلي من الرئة المصابة بالتدرن منذ أعوام طويلة، وبأوامر من ستالين تم إحراق جثة جوركي، ووضعت القارورة الحاوية على رماده في جدار الكرملين، رغم أن هذا مُخالفًا لوصيته، حيث أراد أن يُدفن إلى جانب قبر ابنه.