انتهيت من اللمسات الأخيرة لروايتى «بيت السناري» وهى رواية تلتقط حكاية غريبة منسية من تاريخ مصر، لم تأت الكتب والحوليات على ذكرها إلا عبر سطور قليلة، فسعيت إلى أن أنفخ فيها من خيالي، وحصيلة اطلاعي، وفهمى لتأثير الماضى فى الحاضر، لتُصنع على نحو يعانق التاريخ فيه الفن، ويتضافر الجمال مع المعرفة. إنها ليست فقط رواية عن عُمران بيت رائع، ولا عن رجل عجيب، أحب الحياة والسكينة وجارية فاتنة، فعاش مطاردا، ومات غريبا، دون أن يتبدد سحره، وينجلى غموضه، بل هى أيضا حكاية مجتمع يقاوم الضياع، وهى إلى جانب واقعيتها سيرة متخيلة، ومغامرة تاريخية غريبة. تجرى أحداث الرواية، التى سبق أن حصلت وهى مخطوطة على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، فى زمن وجود الحملة الفرنسية على مصر (1799 1801)، والشخصية المحورية فيها هى «إبراهيم السناري» صاحب بيت السنارى الأثري، الذى تتخذه مكتبة الاسكندرية حالياً مقراً لفعاليتها الثقافية فى القاهرة، والذى كان المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتى قد أتى على ذكره، وصاحبه فى سطور معدودة، فى موسوعته التاريخية، «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار». إن بطل الرواية، وهو شخصية حقيقية، يستحق الالتفات إليه روائياً، نظراً لحياته الغريبة، فقد جاء إلى مصر رقيقًا، ثم عمل بواباً فى المنصورة، وذاع صيته بمقدرته على قراءة الطالع والتنجيم، فقرّبته السلطة حتى صار نائباً لمراد بك الحاكم الفعلى لمصر، فى تلك الأيام. كان عليّ أن أقرأ طويلاً عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية وجغرافياً عن المكان والبشر خلال زمن روايتى هذه، وأن أطلق العنان لخيالى لأصنع شخصيات تتفاعل مع بطل الرواية منها المصرى والتركى والفرنسي. هذه رواية مختلفة عن سابقاتها لدي، فقد سبق أن كتبت فى مسار «الواقعية السحرية» فى «شجرة العابد» و«جبل الطير»، وفى مسار الروايات الاجتماعية مثل «حكاية شمردل» و«جدران المدي» و«زهر الخريف» و«سقوط الصمت» و«باب رزق»، وزاوجت بين الاثنين فى رواية «السلفي»، لكن «بيت السناري» يمكن أن تصنف بسهولة ويسر، ضمن الروايات التاريخية، وإن كنت حاولت أن أتعامل فيها مع التاريخ كمادة لينة يمكن تطويعها لخدمة الفن، وليس بناء جامدا يفرض قيودا على الأديب والكاتب. لقد شكلت الرواية التاريخية إسهاما قويا فى الدراسات التاريخية منذ أن نشأ هذا اللون من فن الرواية فى مطلع القرن التاسع عشر، وإن كان هناك من يعود به إلى بعض كتابات القرن السابع عشر، وهناك من يعتبر الأعمال التى ظهرت فى القرون الوسطى والمعدة للتاريخ الكلاسيكى مقدمات للرواية التاريخية، بل وإلى قرون أبعد من ذلك بكثير فى ملاحم الهند والصين. والرواية التاريخية هى فى حد ذاتها إحدى أدوات تصوير التاريخ الاكثر تفصيلاً وصدقاً، لأنها رواية تقرب الماضى إلينا، وتسمح لنا بأن نعيش وجوده الفعلى والحقيقي، حتى لو لم تتقيد بمعطيات التاريخ فى كثير من الأحيان. فمطالعة رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، و«ويفرلي» لوالتر سكوت إلى جانب روايات الفرنسى ألسكندر دوماس، والعرب جورجى زيدان وعلى الجارم ومحمد فريد أبو حديد وسعيد العريان وجمال الغيطانى وعبد الرحمن منيف وواسينى الأعرج وأمين معلوف، تمنحنا ما هو أبعد مما سجله المؤرخون عن الحوادث والوقائع التى يرتبط أغلبها بالسلطة الحاكمة. لقد تزامن صعود الرواية فى أوروبا مع صعود «علم التاريخ»، واتكأ الاثنان على سعى الإنسان وراء جذوره، فتعاملت الرواية مع إنسان دنيوى متعدد الطبقات، ونقب التاريخ عن آثار الإنسان فى ماض تخلص من الأساطير التى تلتف حوله، وسار الاثنان على التوازى فى ركاب التحولات الاجتماعية الكبرى بفعل الثورة العلمية والتقنية وصعود البرجوازية والنزعة القومية وصولا إلى مجتمع جديد يناضل فى سبيل الحرية والعدالة والمساواة، دون أن يتخلص من ادعاء «الرجل الأبيض» بأنه سيد العالم. وفى عبارة شارحة للعلاقة بين الاثنين يقول الناقد الكبير فيصل دراج: «يتوزع علم التاريخ والرواية على موضوعين مختلفين، يستنطق الأول الماضي، ويسائل الثانى الحاضر، وينتهيان معا إلى عبرة وحكاية، بيد أن استقرار الطرفين منذ القرن التاسع عشر فى حقلين متغايرين لم يمنع عنهما الحوار، ولم ينكر العلاقة بين التاريخ والإبداع الأدبي». وفى مسار الأدب العربى «شاعت الروايات التاريخية خلال فترات معينة من القرن الماضي، كمحاولة للبحث عن الذات القومية القوية المنتصرة أو البحث عن دواء شاف للمحن التى تتعرض لها الأمة، أو لأجل التمنى والحلم بالانتصار خلال فترات الانهزام، وتجاوزت ذلك فى العصر الحالى حيث أصبحت تجسّد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضى على الحاضر وتفسيره. ولعل «بيت السناري» يتطبق عليها هذا التصور إلى حد بعيد، فهى لا تعود إلى الماضى من أجل التسلية، لكن لترى بعض الحاضر فى مرآته، دون أن تنادى بالاستسلام لما جرى فى القرون البعيدة، ولا التعامل معه باعتباره مقدسا دينيا أو وطنيا، إنما مجرد عنصر من عناصر تحليل ما يجرى الآن فى هذه اللحظة الفارقة من تاريخ بلدنا.