شرطان متلازمان كفيلان بأن يكللا مجهوداتنا وخططنا الإصلاحية الطموحة بالنجاح بسرعة البرق، هما الانضباط، والشفافية فى أبهى وأنصع صورهما وتجلياتهما. فما أحوجنا الآن وليس غدا للانضباط الصارم على المسارات الاقتصادية، والمالية، والأخلاقية، والاجتماعية، والتعليمية، والإدارية، والصحية ... إلخ، وأن بلغنا المنى بجعله واقعا مرئيا محسوسا فإن العنصر المكمل والمتمم له سيكون تخلينا عن رفع شعارات ولافتات الشفافية دون تطبيق عملى لها يرضى ويلبى تطلعات المصريين أجمعين، فالمواطن ينتظر ويأمل فى رؤيتها تتحرك أمام عينيه على قدمين ثابتتين قويتين. عائد هذين الشرطين سيصب فى خانة زيادة مخزون الثقة الاستراتيجي، الذى يمثل وقودًا لا غنى عنه لتسيير قاطرة المستقبل فى الاتجاه الصحيح، وينتشلنا كلية من متاهة التنقيب عن إجابة شافية لتساؤل محير لا نكف عن تكراره منذ عقود خلت، هو لماذا نظل قابعين فى مكاننا عاجزين عن إحداث نقلة ملموسة تغير جذريا أحوالنا اقتصاديا، وماليا، واجتماعيا، وسياسيا، بينما يسبقنا آخرون كانوا فى وقت من الأوقات يجلسون فى مقاعد خلفنا فى قطار التنمية والتقدم، وعانوا الأمرين من ضيق ذات اليد، والفقر، والجهل، ونقص الموارد والثروات الطبيعية، هم يتقدمون ويتطورون ونحن تائهون نبحث عما ينقصنا لنجلس لجوارهم؟. الأمانة الوطنية تقتضى لفت نظر أولى الأمر المعهود إليهم بصنع القرار فى أجهزة الدولة العليا والصغرى إلى أن المخزون الشعبى من الثقة فى الحكومة والمسئولين يتناقص بمعدلات متزايدة تدق أجراس الخطر من مغبة استمرار هذا الوضع، لأننا إن تركناها لحال سبيلها سنفرط فى مكسب من أعظم وأقيم مكاسب ثورة الجماهير الغفيرة فى الثلاثين من يونيو التى أعادت للناس ثقتهم فى قيادات البلاد، بعد أن ضاعت تماما فى عام حكم جماعة الإخوان الإرهابية المظلم. تلك الثقة هى التى جعلتهم ينشطون وينفضون عن ظهورهم الكسل، والتواكل، وقتل روح المبادرة داخلهم، فقد أحسوا أخيرا بقيمتهم فى وطنهم، وأن هناك مَنْ يهتم بهم، ويكترث بإخراجهم من غياهب التجاهل، والقهر، والتهميش، والظلم، والتعالى الذميم من أهل الحكم فى عهود سالفة، ورحوا يثبتون فى موقف تلو الآخر أنهم جادون وراغبون فى أن يكونوا شركاء حقيقيين وسواعد قوية فى البناء، والتعمير، بعدما كانوا يكتفون فيما مضى بمشاهدة ما يدور من حولهم دون التفكير فى الانخراط فيها، واستكانوا إلى ملاذهم الآمن وهو السلبية. جانب من عوامل تراجع الثقة مرتبط بتفضيل الحكومة السير على طريق الأشواك والظنون باختياراتها غير الموفقة والمثيرة للجدل لشغل حقائب وزارية، ومناصب مهمة، وعدم تجديدها فى آليات انتقاء المسئولين، ويتضح ذلك من لجوئها لدفاترها القديمة، كلما احتاجت لقيادة، وهو ما يضعها فى مرمى نيران الإعلام، والفضائيات، والمجتمع الذى لا يرحمها ويوجه سهامه ومدفعيته الثقيلة ناحيتها. لدينا عدة أمثلة تؤكد ما سبق نورد منها حكاية وزير الزراعة السابق صلاح هلال الذى ألقت قوات الأمن القبض عليه، اثر مغادرته مجلس الوزراء، عقب تقديمه استقالته لتورطه فى فضحية تلقى رشوة، ووزير التموين السابق خالد حنفي، الذى استقال قبل أيام، بعد تفجر قضية إقامته فى فندق خمس نجوم، منذ تقلده منصبه منذ أكثر من عامين، وها نحن نتابع فصول السجال الدائر حول محافظ العاصمة الجديد عاطف عبد الحميد، الذى أثيرت حوله اتهامات بالكسب غير المشروع عندما كان رئيسا لشركة مصر للطيران. وبدلا من أن تسخر الحكومة جهدها لإزاحة جبال وتلال المشكلات المستعصية التى تحاصر المصريين فإنها تبدد طاقتها فى الرد على الهجمات الإعلامية المسعورة، ونفى ارتكابها أخطاء فى اختيار فلان أو علان، وأنها تفقد مع كل حادثة تلوك فيها ألسنة الناس ثقتهم، فحينما تحيط بها ظلال الشك والريبة يصعب التخلص منها بسهولة، وإن حالفها التوفيق وتخلصت منها فإنها لا تسترد خسارتها من الثقة. أعرف أن السلطة لا تسكت على فساد، أو انحراف، مهما علا شأن المتورط فيه، وتقدمه للعدالة لتأخذ مجراها، وحددت ضوابط ومقاييس للحد الأقصى لما يتقاضاه الوزراء وكبار المسئولين، وتلك علامة إيجابية يجب تعزيزها وترسيخها، لكن لِمَ كتب علينا إضاعة وقتنا سدى فى مطاردة الشائعات والمعلومات المغلوطة التى تجد صدى كبيرا عند عامة المصريين، بسبب سوء الاختيارات، مع أن المثال العامى يقول بوضوح :” الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح”، غير أن الحكومة فيما يبدو لا تود أن تستريح وتريح؟. النماذج السابقة وغيرها تؤكد حقيقة لا مفر منها، هى أننا نحتاج إلى أجيال جديدة تصلح للقيادة دون أن تطاردها الشبهات والشكوك وتؤثر على المصداقية والثقة، وتضرب أساسات وأعمدة الاستقرار الاجتماعى والسياسي، نعم هناك محاولات تجرى لإعداد قادة للمستقبل، لكنها غير مكتملة وناقصة الملامح والقسمات، ويلازمها مؤسسات تتعهد بتنشئتهم وتدريبهم، مثلما يفعل غيرنا فى الغرب والشرق، ولكم أسوة حسنة فيما تفعله الصين صاحبة التجربة الرائدة فى تجهيز قادتها، والأحزاب البريطانية العريقة كحزب العمال، ورجاء لا تفرطوا فى مخزون الثقة فهى غالية. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي