من أجل مصر، ومصر وحدها، لابد من إصرار المصريين على معرفة مَن قتل الشاب الإيطالى ريجينى، وتقديمه للعدالة فورًا، ليس فقط لإرضاء إيطاليا الغاضبة على مقتل مواطنها بطريقة همجية بربرية، ولا للتخلص من ضغوط أوروبا التى استغلت جهات وشخصيات فيها الجريمة النكراء لوضع مصرنا تحت ضرسها وإملاء شروطها وطلباتها عليها فى وقت نمر فيه بضائقة اقتصادية ومالية، وإنما احتراما وإعلاء للرأى العام المصرى الذى يجب أن يكون الأولى بالرعاية والتركيز عندما تتحدث مؤسساتنا الرسمية عن تعقيدات ومنحنيات قضية ريجينى. فمنذ اللحظات الأولى للكشف عن مقتل ريجينى انصب همنا كله على مخاطبة الخارج، وكنا فى موقف الدفاع وليس الهجوم، فسمعة البلد كانت على المحك، ومعها سمعة أجهزتنا الأمنية التى تعمد البعض إلصاق تهمة قتل الباحث الإيطالى بها دون دليل دامغ، وأهملنا الداخل، أو لنقل إن مكانته فى المعادلة تراجعت كثيرًا مع أنه كان المستحق للقدر الأكبر من الاعتناء والمتابعة، وتحريره من ظلال الشك التى سيطرت عليه فى ظل عدم وضوح وتناقض ما يصدر من بيانات وتصريحات من وزارة الداخلية، وتزيد من حيرة المصريين وقلقهم، وفتح منافذ للطعن فى الشرطة وجهدها ومصداقيتها من قبل أطراف لا تضمر سوى السوء والكراهية لوطننا ولأهله. ولا يخفى على أحدكم أن الشعب المصرى يتوق لإقامة دولة العدل والحقيقة بشكل مطلق، فقد عانى طويلا من توابع ومآسى غياب العدالة والحقيقة فى العهود السابقة، وظل يتساءل متى سيشهد اعلان قيام دولة لهما؟ ولم يعد الشعب يقبل بأقل من الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة وقاسية، فهو على استعداد تام للتحمل، والمثابرة، والعطاء، وتجرع المر لو جرى مصارحته ومكاشفته بها، ودلل على هذا فى مناسبات ومواقف عدة، خاصة فى أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو، وليس سرًا أن من بين القواعد المرسخة والمؤسسة لشعبية ومحبة الرئيس عبد الفتاح السيسى بين الناس عدم تحرجه من البوح بحقيقة الأوضاع الاقتصادية والمالية والسياسية بالورقة والقلم، كما يقولون، ومهما كانت سيئة، لذلك لم يتقاعس المصريون مثلا عن التفاعل مع الدعوة لشراء شهادات قناة السويس الجديدة وتوفير مليارات الجنيهات المطلوبة للبدء فى شقها فى ظرف أيام. إذن الحقيقة تريح المصريين، ويغضبهم غيابها والالتفاف حولها، ومن ثم كان ضروريًا أن تعزز أجهزة وزارة الداخلية هذا الجانب لتكسب الظهير الشعبى خلفها بالخروج بمعلومات مؤكدة يقتنع بها الرأى العام ولا يحولها لمادة للسخرية، والغمز واللمز على مواقع التواصل الاجتماعى، وعلى صفحات الجرائد السيارة، مثلما حدث مع قصة التشكيل العصابى الذى تم القضاء على عناصره فى مواجهة مع الشرطة بالقاهرة الجديدة، وأعلن بعض المسئولين الأمنيين عن أن عناصر التشكيل مسئولون عن مقتل ريجينى بعد العثور على حقيبته، وجواز سفره فى منزل شقيقة أحد أفراد العصابة المتخصصة فى خطف الأجانب وسرقتهم، ثم عادوا وقالوا إن متعلقات ريجينى التى عُثر عليها لا تعنى يقينا أنهم من قتلوه!. لما هذا التخبط؟ أولم يكن أجدى التريث، وإعطاء فسحة من الوقت للتحقيقات الجارية لاستجلاء الحقائق من مصادرها المؤكدة، بعدها نعلن ما توصلت إليه، فعامل السرعة كان حاكمًا وموجهًا لوزارة الداخلية مع أن السرعة غير محبذة إن كانت ستؤدى لنتائج عكس المرجو والمأمول، فلا هى أراحت الداخل، ولا أقنعت السلطات الايطالية، ورد الايطاليون بإطلاق هاشتاج على مواقع التواصل الاجتماعى سموه «الحقيقة لجوليو ريجينى» ، وكتب بعضهم:«عادت الحقيبة وغابت الحقيقة». التمهل والتروى فى قضية شائكة معقدة كجريمة ريجينى لن يكون عيبًا ولا نقيصة بل سيكون فضيلة عظمى تحررنا من واحد من موروثات الماضى، عندما كنا نتهكم على مسارعة الداخلية بإغلاق قضية تشغل الرأى العام بإعلانها ضبط الجانى أو الجناة، وبالتأكيد فإن الشرطة يهمها فتح صفحة جديدة مع المواطنين أساسها وعقيدتها الحقيقة ولا شىء غير الحقيقة. وظنى أن المصريين حريصون بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان ودلالات على تدعيم ثقتهم فى الشرطة، وأن تصبح علاقة الطرفين صحية للغاية، لا سيما أن وزارة الداخلية أظهرت ما ينم عن اكتراثها بشواغل وهموم الرأى العام، وهو ما كان نادر الحدوث حتى عهد قريب، فجميل أن تستجيب الشرطة للتحقيق فى شكاوى الاختفاء القسرى، ومعاقبة المخطئين من الأفراد، والأمناء، والضباط، الذين اعتقدوا فى وقت من الأوقات أنهم فوق القانون ومبدأ المحاسبة، وفتح السجون لوفود المجلس القومى لحقوق الإنسان، وتحسين الأحوال المعيشية والرعاية الصحية داخلها. لكن يبقى أن المواطن يود أن يشعر بالأمن فى الشارع، وفى مكان عمله، وعلى الطرق السريعة، فالأمن الجنائى والاجتماعى يجب أن يكون فى الصدارة، فكم من منطقة تخلو من الوجود الشرطى، ويتحكم فيها الخارجون على القانون وعتاة المجرمين، ويقاسى القاطنون فيها من الويلات والاتاوات والبلطجة؟ لا ننكر الجهد المبذول حاليا لتصفية بؤر اجرامية كالمثلث الذهبى فى محافظة القليوبية وغيرها من المحافظات، غير أن المواطن يخالجه الاحساس بأنها مؤقتة ومرتبطة بمقتل عناصر من الشرطة، ثم تعود ريمة لعادتها القديمة، فالاستمرارية مطلوبة ولا غنى عنها. الجهاز الأمنى أيضا عليه أن يحرص على زيادة جرعة الاحترافية فهى الكفيلة ببث الطمأنينة والارتياح فى نفوس المواطنين، ودعم وشائج الثقة فيما يصدر عنه من معلومات ودلائل. أيضا على أجهزتنا الأمنية الاستعداد لمرحلة ما بعد ريجينى باستخلاص الدروس والفوائد من معالجتها لقضيته بكل ما فيها من محاسن ومساوئ، واجراء التعديلات اللازمة لتفادى الوقوع فيها مستقبلا، وأن تكون بوصلتها وعيونها موجهة للداخل الذى سيكون سندها وعكازها للوصول لقتلة ريجينى ايا كانوا، وإنزال العقاب العادل بهم جزاء ما فعلوه به وبمصر. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي