الحكايات عن الحج والطقوس المقدسة عند المسلمين لا تنتهي وهي دائماً متجددة وطاهرة ومقدسة ولكن لحكايات الماضي سحر خاص حيث كانت الحكايات تتسم بالعمق والثراء رغم بساطتها ، كانت تحمل ختم الإتقان والصنعة والجودة والحب والعبقرية ، ولا يمكن أن نبدأ الحديث عن طقوس الحج في الماضي ولا نتطرق لحكايات " المحمل " التي تفوح منها رائحة المسك المختلطة بأساطير الدراويش والعلماء والمشايخ ورمال الصحراء وقوافل الحجاج والبسطاء ، والمحمل لمن لا يعرفه هو هيكل خشبي كانت تحمله الجمال يتقدم الموكب الذى كان يخرج من مصر كل عام حاملاً كسوة الكعبة ويرافقه الحجيج الى بيت الله الحرام وقد ظل هذا التقليد منذ عهد شجرة الدر والمماليك حتى نهاية أسرة محمد على .. والمحمل وأسراره هو موضوع هذا الأسبوع من خلال الرسومات التي تركها لنا الفنانون الأجانب الذين انبهروا بهذا الطقس الديني فرسموا تفاصيله بكل دقة وأرسلوه شرقاً وغرباً ليتم نشره في الجرائد العالمية ، والصورة التي أعرضها هنا كانت منشورة في جريدة The Graphic الإنجليزية بتاريخ 28 أكتوبر 1882 بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر علي الاحتلال البريطاني لمصر ، مما يوضح أن الإنجليز جاءوا الي مصر برجالهم وصحفييهم ورساميهم وبدأوا في نقل كل تفاصيل الحياة المصرية ليشاهدها الإنجليز منشورة في جرائدهم علي بعد الاف الأميال عن مصر ، والصورة منشورة علي صفحتين باستخدام الفحم وهي مليئة بالتفاصيل الجميلة والدقيقة وتبين الخديو توفيق إبن إسماعيل وهو يُحني رأسه ويقدم التحية لموكب المحمل قبل أن ينطلق في طريقه الي مكة وهو يحمل لجام الجمل الذي يتقدم القافلة وأمامه وقف الشيخ أو رئيس القافلة في وضع انحناء ليتسلم منه زمام الموكب الشريف ، وكلاهما أي الخديو والشيخ يدركان أنهما يقومان بعمل جليل ومقدس ، فالأول يُعطي إشارة البدء للقافلة للتحرك والأخير يحمل علي عاتقه مهمة شريفة هي تكسية الكعبة وهو في الوقت نفسه مسئول عن الحجيج المصريين الذين خرجوا معه (يالها من مهمة مقدسة وشاقة) ولكن للحق فقد كانت مصر تقوم بها علي أكمل وجه وقد ظلت مصر تكسو الكعبة لسنوات طوال بأجود الأقمشة الموشاه بالفضة والمرصعة بالأيات القرآنية المشغولة بحرفية علي يد أمهر الصناع المصريين .. والصورة توضح ببساطة إكبار المصريين وتقديسهم للكعبة وكسوتها فقد احتشد كبار رجال الدولة حول الخديو وهو يحى المحمل ووقفوا ملتزمين الصمت مستشعرين القداسة ومنهم الوزراء والشيوخ والعلماء والضباط وبعض القادة الإنجليز وعلي رأسهم سير جارنت ولسلي قائد الأسطول البريطاني والسير مالت القنصل البريطاني في محاولة منهما للتقرب للشعب المصري ، ويظهر في الصورة قائد حرس الموكب علي حصانه ويبدو أن الموكب كان يبدأ رحلته من مقر إقامة الخديو ومقر الحكم ... كما يبدو واضحاً أطياف الشعب المصري من خلال تباين الملابس واختلافها مما يوضح حضور عدد كبير من مختلف الطوائف لتوديع المحمل . بقي أن أقول إن قصة كسوة الكعبة ترجع لعهد عمر بن الخطاب الذى كان يوصي بكسوة الكعبة بالقماش المصري المعروف بالقباطي الذي اشتهرت بتصنيعه مدينة الفيوم . ويقول دكتور سمير عمر إبراهيم إن السلطات المصرية كانت تجمع مبالغ كثيرة على شكل ضرائب لتغطية نفقات الصرة والكسوة الشريفة وإنه فى أواخر شهر شوال كان يصدر فرمان يودع بالمحكمة الشرعية يُذكر فيه اسم أمير الحج الذى سيتولى قيادة موكب «المحمل» الذى يصفه وليم لين فيقول إنه يبدأ اولاً بتقدم مدفع صغير يستخدم لإطلاق إشارة رحيل القافلة يتبع ذلك فرقتان من الفرسان الأتراك ثم عدة رجال راكبين الجمال وخلفهم مجموعة أخرى من الجمال على ظهورها قرب وصناديق تحتوى على الاموال التى سوف تصرف على الحرمين وأمتعة أمير الحج والكسوة الجديدة وهى تضم كسوة الكعبة وكسوة مقام الخليل وستارة باب التوبة وبيارق الكعبة والمنبر ويتخلل الموكب مواكب الدراويش وهم يحملون أعلامهم وبعض أعضاء طوائف الحرف وأئمة المذاهب الأربعة وقد يصل عدد الجمال فى الموكب الى مائة جمل . وكان المحمل يطوف الشوارع قبل الخروج إلى الحجاز وكان يصاحب طوفانه العديد من الاحتفاليات كتزيين المحلات التجارية والرقص بالخيول وكان الوالي أو نائب عنه يحضر خروج المحمل الذى كان يمر في شوارع القاهرة وخلفه الجمال التي تحمل المياه وأمتعة الحجاج وخلفهم الجند الذين سيحرسون الموكب حتى الحجاز وخلفهم رجال الطرق الصوفية الذين يدقون الطبل ويرفعون الرايات. وكانت الحكومة المصرية تسمح للراغبين من المصريين فى أداء فريضة الحج بالسفر مع قافلة المحمل « حتى يكونوا تحت رعاية أمير الحج وحماية الحرس ويتكفل أطباء المحمل بمعالجتهم وكان يتم توفير أسباب الراحة لهم وذلك بمبالغ الى حد ما زهيدة على أن يتقدم الراغب فى السفر مع المحمل بطلب قبل موعد السفر بخمسة أسابيع على الأقل وقد حددت الحكومة المصرية الخديوية مصاريف السفر كما تقول بعض المصادر ب 25 جنيها فى الدرجة الأولى على أن تشمل أجرة الجمل و الباخرة والوابور «القطار» وكذلك رسوم المحاجر الصحية و نفقات «المؤنه» الطعام أما السفر بالدرجة الثانية فكانت قيمته 23 جنيهاً والدرجة الثالثة 20 جنيهاً وإن اتفق اثنان من الحجاج على السفر بجمل واحد فتكون القيمة 14 جنيهاً . ويقول البرت فارمان قنصل أمريكا فى مصر فى الفترة من 1876 وحتى 1881 إن «الكسوة » وهى أبسطة فخمة تغطى بها جدران الكعبة وتصنع من الحرير الأسود المشجر وتُوشى بالذهب وتزين بالآيات القرآنية وتكلف الحكومة المصرية ما يقرب من 23 الف دولار كما أن مصاريف الحج التى تنفقها الحكومة تزيد على 330 الف دولار ، وأن الدعوات لحضور احتفالات المحمل كانت تُرسل الى الأجانب فيصل المدعوون فى الصباح الباكر الى قصر محمد على بالقرب من القلعة حيث تبدأ القافلة بالرحيل وهناك تشاهد فرق من مختلف طبقات الجيش قد إصطفت ، وقد أعد للخديو سرادق من القطيفة الحمراء والذهبية اللون وكذلك للوزراء وفضيلة القاضى والمفتى وبعض الشخصيات الكبيرة من العسكريين ورجال الدين والملكيين، وعندما وصل الموكب فوقف الجمل أمام سرادق الخديو فتقدم الخديو وأمسك الجمل من مقوده حيث سلمه الى فضيلة الشيخ أمير الحج وبهذا يكون قد أولى ثقته الى أمير الحج ومنحه السلطة على جميع من معه .والله .. الله على مصر زمان .