فى مؤتمر صحفى مشترك شهدته باريس، قبل أيام قليلة، دافع صادق خان، عمدة مدينة لندن، عن حق المرأة المسلمة فى ارتداء اللباس الذى تريد. فيما دافع آن هيدالجو عمدة باريس، عاصمة فرنسا ومهد الأنوار الأوروبية، عن قرار محكمة نيس الصادر فى 22 أغسطس بحظر ارتداء زى البحر المسمى ب (البوركيني) على شواطئ فرنسا. القرار كان قد صدر بالأساس لصالح بلدية مدينة ميلنوف لوبيه، الواقعة على شاطئ المتوسط، وهو ما كان ينطبق على نحو ثلاثين بلدية فرنسية أخرى قررت حظر ذلك اللباس على شواطئها بعد أن تم بالفعل معاقبة امرأة مسلمة كانت ترتديه، وذلك قبل أن يقوم مجلس شورى الدولة الفرنسي، أعلى سلطة قضائية فى البلاد، يوم السبت الماضى بإلغاء قرار محكمة نيس، باعتباره تضييقا على الحرية الشخصية للمرأة المسلمة، طالما أن البوركينى لا يمثل خطرا على أمن البلاد، ولا يشكل تهديدا حقيقيا لتقاليد الجمهورية الفرنسية العلمانية. المعروف أن صادق خان عمدة لندن مسلم الديانة، باكستانى الأصل، ولكن موقفه لا يعكس اصطفافا آليا مع بنى عقيدته، بل تعبيرا عن قيم الملكية البريطانية العريقة، وعن التجربة الديمقراطية الانجليزية المديدة التى تجاوز عمرها ثمانية قرون منذ تم تدشين (الماجنا كارتا) أو العهد العظيم مطلع القرن الثالث عشر. ومن ثم عن نوع من العلمانية المعتدلة (الخافتة) التى جعلت من الملكة رأسا للدولة وللكنيسة الإنجليكانية فى الوقت نفسه، فيما تمثل الكنيسة بذاتها موقفا معتدلا أو توفيقيا بين الكنيسة الكاثوليكية التقليدية، ذات الادعاءات الأممية (المسكونية) والكنائس البروتستانتية التى تفتقر تماما لمثل تلك الادعاءات الكونية، بل وتتكيف مع أى جماعة دينية ولو صغيرة أو محلية، فالانجليكانية، وهى خلاصة إصلاح دينى كاثوليكى قام به مجمع لاترانت فى القرن السادس عشر، بمثابة كاثوليكية وطنية معتدلة. والمعروف كذلك أن هيدالجو كاثوليكي، ولكن موقفه الرافض للبوركينى لم يكن مجرد انعكاس تلقائى لهوية دينية مسيحية، بل لعلمانية فرنسية جذرية فى تعاطيها مع الدين منذ الثورة الفرنسية التى تبنت صيغة حادة (يعقوبية) من التنوير. أما موقف مجلس الدولة الفرنسي، فجاء بمثابة تصحيح قضائى لانحراف قانونى عن المبادئ العلمانية الجوهرية، وقعت فيه محكمة نيس عندما اعتبرت لباس بحر مميز تعبيرا سياسيا عن هوية دينية، تناقض الهوية الفرنسية. وهذا هو خطأ متكرر طالما وقع فيه الغربيون وليس الفرنسيون فقط، باسم العلمانية، وهو جوهريا موقف غير علماني، أقرب إلى أصولية علمانية، تسعى إلى تحويل العلمانية من موقف محايد بين الأديان، يعتبر الدين أمرا شخصيا، إلى دين بديل عن الأديان التاريخية، يفرض نفسه ليس فقط على المجال العام السياسى ولكن على المجال الخاص الفردي. فى أزمة البوركينى إذن لعب كل طرف دوره المتوقع منه، فالعلمانية المعتدلة قبلت منذ البداية بالحرية الشخصية فى اللباس مادام لا يهدد الأمن فعليا ولا ينال من الهوية العلمانية جوهريا. والعلمانية المتطرفة حاولت أن تصادر هذا الحق فعليا تحت دعاوى زائفة لا تعكس سوى استعلاء ثقافي. فيما قام مجلس الدولة، باعتباره ضمير الجمهورية الفرنسية، بتصحيح الموقف، وإعادة تعريف العلمانية على نحو أكثر عمقا، يتجاوز تأويلاتها المنحرفة. والمؤكد إن حبرا كثيرا سوف يسيل على صفحات الجرائد العربية يبارك موقف مجلس الدولة الفرنسي، وربما خرجت بيانات من مؤسسات دينية أو علماء دين مسلمين تشيد بقيم الجمهورية الفرنسية التى تؤمن بالتعددية الثقافية، وهى إشادة فى محلها تماما، ولكن يبقى السؤال الذى يتوجب أن نطرحة على أنفسنا وأن نجيب عليه بصراحة: ماذا لو أصدر مجلس الدولة الفرنسى نفسه قرارا بتجريم النقاب، ذلك الزى الذى يغطى وجه المرأة تماما، فيخفى هويتها وشخصيتها؟. هل نبارك القرار، كما باركنا سلفه باعتباره تعبيرا عن علمانية معتدلة، ترفض التطرف الدينى هذه المرة كما رفضت التطرف العلمانى فى المرة السابقة، أم سنصطف آليا ضده، باعتباره عدوانا فرنسيا على المسلمين هناك ومؤامرة غربية كبرى على الدين الإسلامى فى كل مكان؟. إن قدرا ولو قليلا من الإتساق الأخلاقي، يدفعنا لقبول القرار الثانى إذا ما صدر، كما يدفع مؤسساتنا الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، أن تكون فى جرأة مجلس الدولة الفرنسى بالإعلان الصريح عن أن النقاب ليس زيا شرعيا تفرضه الشريعة الإسلامية، وأن من واجب المسلمين احترام القوانين الأساسية فى البلدان التى يعيشون فيها، وعدم التصرف أو السلوك ضد اعتبارات الأمن فيها. ولنا أن نتصور تأثير موقف كهذا على صورة الإسلام فى أوروبا كلها، التى تشهد مرارا معارك لا تتوقف وسجالات لا تنتهى حول النقاب كزى يطمس شخصية المرأة، يمكن التستر خلفه لارتكاب أعمال إجرامية، فضلا عن كونه زيا محفزا للحنق ومثيرا للكراهية يقوم على إخفاء الذات والتطفل على العالم. مبادرة كهذه لا تنبع فقط من رغبة أخلاقية فى مكافأة الموقف الفرنسى العادل من البوركيني، رغم أهمية ذلك، ولكن من ضرورة عملية لتحصين القرار القانونى مجتمعيا. فالمعروف أن الثقافات لا تدار بقوانين، وإن صدور قرار قضائى بمشروعية أمر ما لا يعنى توافر القبول الواسع له، ولأن المسلمين فى فرنسا وأوروبا كلها يحتاجون إلى عيش هادئ مطمئن، فإنهم يحتاجون إلى قبول مجتمعى واسع لقيمهم وحضورهم الإنساني، وضمنه زى البحر (البوركيني) أو زى الاحتشام (الجاب) وهو أمر لن يحدث إلا بالتخلى عن النقاب، لأنه زى مثير للقلق، تعبير زاعق عن التناقض وليس فقط الاختلاف، يؤجج رغبة الأوروبيين فى رفض ما سواه، ومن ثم فإن تخلى المسلمات عنه، ورفض المؤسسات الدينية الإسلامية له، سوف يرتق ثقوبا كثيرة فى جدران الثقة بين الطرفين، ويسهم فى تخلى كليهما تدريجيا عن تطرفاته، لنتحرك ولو خطوة صغيرة نحو مجتمع ما بعد علماني، وما بعد أصولى. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم