لا بأس من الضغط على بسطاء المصريين ومطالبتهم بالصبر والتضحية بنفس راضية، لإصلاح اقتصادنا المتعثر، وأوضاعنا المالية المتردية، ووقف اندفاع عربة أزماتنا المنطلقة بسرعة جنونية. أيضا لا بأس من دعوة الناس لكتمان آلامهم والتوجع فى صمت من مرارة طعم العلقم التابع للقرارات المؤلمة والقاسية المزمع تطبيقها كشرط لازم للحصول على قرض صندوق النقد الدولى، ولإتمام إصلاحاتنا الهيكلية. فنحن فى مواجهة إشكالية معقدة تشبه حسبة برما، يقف على أحد طرفيها خيارات وضرورات الواقع وما سيترتب عليها من استحقاقات وإجراءات صعبة لا نعرف مداها وسقفها، مثل رفع الدعم عن خدمات وسلع أساسية لحياة المواطن الكادح، والاستغناء عن آلاف الموظفين، وزيادة أسعار المواصلات العامة وخلافه، بينما يقف على الطرف الآخر تساؤلات حائرة ومقلقة، حول مدى توافر طاقة ومساحة استيعابية لدى مواطنينا لتحمل مزيد من الأعباء والأثقال، فلسان حالهم يقول يكفينا ما تحملناه ونرجوكم تركنا ندبر شئوننا وأمورنا، وداخلهم تشتعل حرائق بفعل شحنات الغضب والخوف من القادم . الخيارات على الجهتين محدودة للغاية وتغلفها المخاطر والرهانات الخطيرة، إذ لا مهرب أمام الحكومة من تناول دواء الإصلاح الشامل وترقب مضاعفاته وآثاره الجانبية، لعلمها بأنه لا يوجد ما يعزز جهودها الإصلاحية اعتمادا على الذات من معدلات انتاج كافية، وصادرات للخارج، واكتفاء ذاتى ولو بجزء من احتياجاتنا الغذائية، وسياحة منتعشة نابضة بالحياة وتدر علينا بعملاتها الصعبة، وعملة محلية قوية تنافس مثيلاتها بندية وثبات. اما المواطن فإنه فى مأزق بالغ التعقيد، لأنه مخير ما بين البحث عن وسيلة تبقيه طافيا على سطح الحياة بدخل تتناقص قوته الشرائية يوما بعد يوم، فهو مهموم بوضعه وليس لديه الوقت ولا الذهن للاكتراث بالعام على الخاص، والوجه الآخر لخياره الانفجار إذا ما أحس أنه مهدد حتى فى الحيز الذى يضيق عليه ويشعره بالاختناق الشديد. هذه الإشكالية الخطيرة نتاج حتمى وطبيعى لغياب الطبقة الوسطى التى أضحت أثرًا بعد عين من كثرة ما تعرضت له من ضربات واهتزازات فى السنوات الأخيرة، بعدما كانت العمود الذى تستند إليه خيمة الوطن، وبفضله تجاوز قديما وحديثا لحظات المحن والأزمات العصيبة من حروب، وانكسارات داخلية وخارجية، فالطبقة الوسطى كانت حائط الصد الذى يحول بينه وبين السقوط والانهيار. إن مسيرتنا الإصلاحية ستظل منقوصة العائد، ولن يكون لها مستقبل واعد إلا إذا ركزنا فى تعويم الطبقة الوسطى لإعادتها إلى سابق عهدها ومكانتها التى اندثرت، وانقاذ البقية المتبقية منها، ويستلزم ذلك آليات وخطوات يكتب لها الاستمرارية بعيدا عن تصريحات واكليشيهات محفوظة عن ظهر قلب عن أن محدودى الدخل فى عين وفؤاد الحكومة ومسئوليها، وعندما نطالب بإعادة الطبقة المتوسطة لعصرها الذهبى نقصد تلك التى كانت قانعة بأنها مستورة، وتستطيع الوفاء بمتطلبات أولادها وبناتها بالتدبير والحيلة. كبداية يجب السيطرة على التضخم لإحداث التوازن بين الدخل الثابت والأسعار المتغيرة والمتزايدة، ولنا أسوة حسنة فى تجارب بلدان صديقة حدت من شطحات وانفلات التضخم، ومنها الصين، وكوريا الجنوبية، تليها التحصن بالثقة المتبادلة بين المواطن والحكومة، حينها لن ترهق السلطات نفسها فى مطالبة المواطنين بشد الحزام وتقديم مدخراتهم للدولة، وإيجاد هذه الثقة مهمة الحكومة فى المقام الأول، فمن غير الجائز أن تحدثنا عن التقشف وضبط الانفاق، فى حين تتهادى أمامنا سيارات السادة المسئولين الفارهة من أحدث الموديلات وأفخمها، وأن يختار المسئول العلاج فى الخارج لعدم اطمئنانه للرعاية الصحية فى بلده، ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا ننسى توفير فرص العمل اللائقة وبرواتب مناسبة عبر مشروعات إنتاجية تبنى صناعات وطنية تكون زادا يقوى مفاصل وعضلات اقتصادنا وتنميه باستمرار ولا تجعله تحت رحمة المنح والقروض والعطايا من القريب والبعيد، كلما تعثر، فمثل هذه الخطوات وغيرها ستزيد من جرعات الأمل فى نفوس الناس وتجعلهم أكثر تحفزا واستعدادا للتعاون دون مجادلة أو تقاعس. وإن كنا فى معرض ضرب الأمثال فأوصيكم بالنظر فى الدور الذى لعبته الطبقة المتوسطة فى كوريا الجنوبية، عقب تعرضها للأزمة المالية الآسيوية فى صيف 1997 التى أوصلت نظامها المالى الى حافة الإفلاس، واضطرت مجبرة لاقتراض 58 مليار دولار من صندوق النقد الدولى، وتنفيذ سلسلة من الشروط والإصلاحات العنيفة، آنذاك لم تجد الحكومة الكورية بدا من مناشدة مواطنيها العون. الكوريون الجنوبيون كانوا عند حسن الظن فبادروا بالتنازل عن مجوهراتهم وذهبهم لدعم الاحتياطى النقدى، واشتروا المنتجات المحلية توفيرا للعملة الصعبة المدفوعة فى جلب البضائع الأجنبية، وتحملوا نصيبهم من الألم من خلال فصل آلاف العاملين بالشركات والمصانع فى إطار إعادة الهيكلة. فى غضون ثلاث سنوات سددت سول قرض الصندوق، وواصلت انطلاقتها وقفزاتها الاقتصادية تحت رعاية الطبقة الوسطى التى فعلت ما فعلته عن طيب خاطر، لأنها جربت الحكومة فى السراء ورأت اهتمامها بها وحرصها على تدعيمها وتنميتها، وتنعمت فى دولة الرفاهية، فكانت السند والمدافع وقت الضراء.. أظن أن الرسالة واضحة. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي