لنا تاريخ اقتصادى غريب مع صندوق النقد الدولى ومؤسسات التمويل الدولية ولا يخلوا هذا التاريخ من مواقف ومحطات ذات دلالة وهى محطات عشرية بمعنى أنها تتجدد مع كل عقد منذ السبعينيات مع أول لجوء لمصر لصندوق النقد الدولى. فى عهد الرئيس السادات وكان ذلك أول تعاون لمصر مع الصندوق ثم تجربة الثمانينيات وكانت من التجارب الفاشلة حيث لم تحقق نتائج ايجابية تذكر، أما تجربة التسعينيات والتى صاحبها برنامج اصلاح اقتصادى طموح فقد حققت بعض النتائج الايجابية التى لم تستمر طويلاً ، أما تجربة عام 2004 وما بعدها فقد كانت أنجح التجارب فى التعاون مع الصندوق خاصة مع وجود حكومة فى السنوات التالية ذات طابع اقتصادى وذات قدرة على تنفيذ برنامج إصلاح جاد مما أدى إلى زيادة الصادرات وارتفاع معدلات السياحة وزيادة تدفقات رأس المال الأجنبى المباشر وغير المباشر وتراجع معدلات التضخم وانخفاض نسبة العجز فى ميزان المدفوعات وتراجع عجز الميزانية هذا كله مع تحقيق نسبة نمو عالية وصلت إلى 7% فى بعض السنوات.. وبغض النظر عن تقييم آثار التجربة وما صاحبها من خلل فى توزيع عوائد النمو ومكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادى مما أدى إلى حدوث مشكلات اجتماعية عميقة كانت أحد الأسباب المباشرة فى موجة الثورات التى شهدتها مصر منذ 2011.. بغض النظر عن كل ذلك سوف نجد أنها تجربة ثرية وناجحة اقتصادياً.. واليوم ومع إعلان الحكومة عن سعيها لاقتراض أكثر من 22 مليار دولار منها 12 مليار من خلال مفاوضات مباشرة مع صندوق النقد الدولى والباقى من مؤسسات تمويل دولية متنوعةيتجدد الحديث حول أهمية القرض من عدمه رغم أن جميع المؤشرات الاقتصادية تجعل القرض ضرورةحتمية فمن ناحية نجد أن نسبة العجز فى الموازنة قد تفاقمت لأكثر من 12% وانخفضت عوائد الصادرات المصرية لأكثر من النصف وانهارت عائدات السياحة وانخفضت تحويلات المصريين من الخارج وأصبح لدينا سعرين للعملة احدهما رسمى بالبنوك والآخر غير رسمى فى السوق السوداءوبفارق وصل الى اكثر من 40% وعادت من جديد قيود الاستيراد ولو باجراءات مختلفة هذه المرة وارتفعت معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة لتصل إلى ما يقرب من 15% فى النصف الاول من العام الحالي.. هذه المؤشرات تجعل قرض صندوق النقد الدولى حتمى ليس لأهمية القرض فى حد ذاته ولكن لأن الاقتراض سيفرض على الحكومة سواء ذاتياً أو من خلال الصندوق تطبيق برامج إصلاحية تضمن زيادة معدل النمو وعلاج فعلى لعجز الموازنة وإجراءات جادة لجذب الاستثمار الأجنبى وبالتالى زيادة معدل الاستثمار بصفة عامة المباشر وغير المباشر وخفض الإنفاق الحكومى وخفض معدلات التضخم فالعمل المشترك مع الصندوق سوف يضمن تحقيق نتائج ايجابية.. فالقصة ليست فى رقم القرض أياً كان ولكن فى السياسات والبرامج التى سيتطلب حصولنا على القرض تنفيذها مع متابعة صارمة ودورية من صندوق النقد الدولى بما فيها بالطبع تعويم الجنيه ولو جزئياً أو على مراحل وهو الدواء المر الذى لا بد منه وصولاً لعلاج دائم وفعال للأزمة الاقتصادية الراهنة.. وهذا الدواء المر لا بد منه ولا بد ان يفهم الجميع أن عصر التمويل المجانى أو رخيص التكلفة قد انتهى أو على الأقل لم يعد ممكناً كما كان وقت تدفق المساعدات الخليجية على الاقتصاد المصرى بعد 30 يونيو والتى تم توجهيها لعلاج عجز الموازنة وسد الاحتياجات الأساسية دون أى خطط تنموية.. وبالطبع فإننا ننتظر فترة مخاض صعبة حتى يمكن تحقيق هذه الأهداف على أرض الواقع خاصة وأن الآثار السلبية على المجتمع المصرى سوف تكون شديدة الوطأة على المدى القصير وان كانت ايجابية على المستوى البعيد وهو ما يحتاج من الحكومة أن تتبنى سياسات اجتماعية مصاحبة لبرامج الاصلاح الاقتصادى يكون من شأنها حماية الشرائح الفقيرة وخاصة محدودى الدخل والأشد فقراً وهو ما لا يتعارض بالمناسبة مع تطبيق البرامج الاصلاحية اقتصادياً خاصة اذا ما احسن تطبيقه.. ومطلوب أيضاً المزيد من الشفافية والمشاركة مع المجتمع ورجال الأعمال بشأن تفاصيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولى وتفاصيل برامج الاصلاح الاقتصادى وتطبيقاته الحالية والمستقبلية وآثاره المتوقعة على كافة اوجه النشاط الاقتصادي.. وأعتقد أن انتهاج سياسة المصارحة والمكاشفة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادى كله وليس فقط مفاوضات وملابسات قرض الصندوق أمر حتمى حتى يمكن التخلص من التابوهات الموروثة والتى يعتبر مجرد إثارتها من الكبائر الاقتصادية رغم أنها قد تكون العلاج أو الحل أو ربما جزء منه منها مثلاً تابو قضية تعويم الجنيه وتحريك سعر العملة وتابو الاقتراض من الخارج وتابو الإصلاح الاقتصادى المراقب خارجياً وتابو الوظيفة الحكومية وغيرها من القضايا التى تدخل فى باب الخطايا التاريخية بحكم موروثات ثقافية وذهنية لم تعد تناسب روح العصر وطبيعته ولم تعد ملائمة مع مكونات وحركة الاقتصاد والتجارة الدولية.. هنا المصارحة والمكاشفة ضرورة لمواجهة هذه الكبائر والتخلص من عقدها التاريخية وصولاً لفهم مشترك ولتكوين رأى عام مساند للحكومة وللدولة المصرية فى سعيها لتحقيق نجاح وانطلاق اقتصادى حقيقى ومستدام..