لم يأخذ الشاعر السورى شوقى بغدادى حقه من الاهتمام، لا بين النقاد ولا فى الوسط الثقافى العربي، أو هكذا يخيل إليّ. ذلك أن ما كتب عنه بالمقارنة بما كتب عن زملائه من شعراء خمسينيات القرن الماضى يشير إلى الإجحاف الذى لحق بهذا الشاعر. غير أن هذه الملاحظة التى أسوقها فى معرض الكتابة عن شوقى بغدادى لا ترمى إلى تعظيم شأن شاعرنا فيما يتجاوز المكانة التى تعود له. علماً بأن مكانة أى شاعر لا يقررها النقاد وحدهم، وإن كانوا ومعهم الإعلام، هم الذين يقدمون شاعراً على سواه ويهملون شاعراً آخر، لأسباب لا تعود فقط وبالضرورة إلى القيمة الشعرية والقيمة الإبداعية التجديدية لهذا أو ذاك من الشعراء. بل أن أسباباً أخرى يعود بعضها لنشاط الشاعر بالذات ويعود بعضها الآخر لأذواق النقاد ولحسابات خاصة تعود لكل منهم. [وجميع هذه الأمور هى التى تلعب الدور الحاسم أكثر من الجودة الشعرية ودرجة التجديد والتحديث. لن أغامر هنا بالقول ان شوقى بغدادى الذى سطع اسمه فى أول خمسينيات القرن الماضى كان فى مقام بدر شاكر السياب من حيث الريادة فى الحداثة الشعرية. لكنه، برغم كونه بدأ كتابة الشعر ملتزماً فيها بالطريقة الكلاسيكية القديمة، كان يحمل فى شعره بذوراً واضحة المعالم من الجديد فى اللغة وفى الصورة وفى الأفكار. وهو ما مكنه من أن يواكب النهضة الشعرية فى سوريا مع عدد من أبناء جيله من الشعراء. كما مكنه من أن يكون فى مصاف عدد من الذين اعتبروا رواد الشعر العربى فى تلك الحقبة من تاريخ سوريا والعالم العربي. أقول ذلك لأننى عرفت شوقى بغدادى منذ مطالع صعوده كشاعر فى خمسينيات القرن الماضي، مع أبناء جيلى ممن كانوا على صلة وثيقة بالحركة الأدبية فى بلداننا. واستمرت علاقتى به وبشعره على امتداد حياته حتى هذه اللحظة. وقادتنا ظروف تلك الحقبة إلى إقامة علاقة صداقة حميمة أعتز بها، وغمرنى خلالها شوقى بفيض من محبته. وإذا كان للالتقاء الفكرى بيننا سبب أساسى فى نشوء علاقة الصداقة الحميمة بيننا ، فإننى أؤكد أن الأساس فى تقييمى لشعره يعود إلى كونى قارئاً عتيقاً للشعر، منذ بدايات شبابي، للشعر العربى فى عصوره القديمة، وللشعر العربى الحديث فى أطواره المختلفة. لكن للالتقاء الفكرى مع ذلك دور فى تعظيم الجانب الإيجابى فى تقييمى لشعر شوقى ولسواه من الشعراء، من بدر شاكر السياب وبلند الحيدرى وعبد الوهاب البياتى ونازك الملائكة وسعدى يوسف، وأدونيس ومحمود درويش، إلى سائر شعرائنا فى مشرق العالم العربى ومغربه على حد سواء. وما أكثر ما تربطنى من علاقات صداقة مع الشعراء المعاصرين بدءاً من أواخر أربعينيات القرن الماضى حتى هذه اللحظة من تاريخنا الغنى بالشعر وبالشعراء. لا أدرى لماذا لا يحب شوقى بغدادى الحديث عن سيرة حياته بمحطاتها المختلفة، وبالتفاصيل الأساسية لكل محطة من هذه المحطات. هل يعود ذلك إلى أنه يترك لدواوينه وقصصه وروايته الوحيدة ومسرحيته الوحيدة، وبعض خواطره أن تأخذ عنه هذه المهمة الصعبة والدقيقة؟ أم أنه يخشى أن يعظم شأن نفسه أو يقلل من شأنها؟ أم أنه يخاف أن يكشف بعضاً من أسرار سيرته التى يريدها أن تبقى خارج الأضواء؟ أستخلص هذه التساؤلات من الصفحتين اللتين بعث لى بهما بناء لطلبي، حين أخبرته بأننى سأكتب عنه بعض ما يتصل بدوره فى النهضة الشعرية الحديثة فى سوريا وفى العالم العربي، وبعض ما يتصل بالحقبة السياسية والثقافية التى عشنا فيها بعض أمجاد تاريخنا والكثير من مآسينا وهزائمنا، العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية. تقول السطور التى بعث بها لى شوقى انه ولد فى عام 1928 فى مدينة «بانياس» على الساحل السورى فى عائلة متوسطة الحال يعيلها أب يعمل موظفاً فى المالية العامة. وكانت هذه الوظيفة، ووظائف أخرى، سبباً فى تنقل العائلة فى مدن وبلدات عديدة داخل الوطن السوري، إلى أن استقرت فى دمشق فى عام 1945. وكان شوقى خلال فترة الترحال ينتقل من مدرسة إلى مدرسة، إلى أن استقر فى المرحلة الثانوية فى مدارس دمشق. وفى دمشق تابع دراسته الجامعية فى كلية الآداب والتربية فى جامعة دمشق، الكلية التى كانت تحمل فى ذلك الحين اسم «دار المعلمين العليا». وقد تخرج فى الجامعة فى عام 1952، حاملاً الشهادة الجامعية التى تؤهله لمهمة التدريس فى المدارس الثانوية. وهى المهمة التى واظب عليها على امتداد أربعين عاماً انتهت بتقاعده. لكن الميول الأدبية المبكرة عند بغدادى هى التى قادته إلى اختيار تلك الكلية بالذات لدراسته الجامعية. وسرعان ما بدأت موهبته الأدبية تتفتح وهو طالب فى الجامعة. وبدأ يكتب الشعر والقصة القصيرة والمقالة الأدبية. ونال وهو فى مقاعد الدراسة عدة جوائز فى الشعر والقصة. وساهمت تلك الجوائز فى إبراز اسمه، وفى تحوله التدريجى إلى أديب سورى معروف، وإلى شاعر جديد التحق منذ مطلع خمسينيات القرن الماضى بنادى شعراء تلك الحقبة التاريخية. وكان من أول نشاطاته الثقافية إسهامه فى العام الذى تخرج فيه من الجامعة (1952) فى تأسيس «رابطة الكتاب السوريين». كان شوقى بغدادى فى مقدمة ذلك الجيل من الأدباء والشعراء الذين أسهموا بإبداعاتهم فى إغناء الأدب الروائى والقصصى الجديد وفى إغناء دوحة الشعر بالجديد فيه ألواناً وطرائق وأساليب وفى إغنائه بالمبدعين. وكان بعض رواده أعضاء فى الرابطة أيضاً. لكن هذه الرابطة لم تعش طويلاً. إذ سرعان ما قضت عليها التطورات السياسية التى رافقت ولادة الوحدة السورية المصرية. إذ حلت وأقفلت أبواب مكاتبها بالشمع الأحمر بعد أن صودرت محتوياتها. وكانت الحجة فى ذلك التدبير أن أعضاءها ينتمون إلى الحزب الشيوعى فى سورياولبنان، وحتى فى مصر والعراق والسودان والأردن. وسرعان ما دخل شوقى بغدادى السجن فى عام 1959، العام الذى اشتد فيه الخلاف بين الرئيس عبد الناصر والشيوعيين العرب. وهى مرحلة رافقت تفاصيل ما جرى فيها من أحداث تركت تأثيراتها السلبية على الأوضاع السياسية العربية، وعلى الثقافة العربية كذلك. هنا يطرح السؤال عن حقيقة موقف شوقى بغدادى من الشأن السياسي، وحقيقة موقفه الفكرى فى الدرجة الأولى. ذلك أن شوقى بغدادى لم يكن مجرد شاعر وقصاص وحسب، بل كان فى أعماقه مفكراً وسياسياً. كان يسارياً ملتزماً. وكان شكل التزامه ذاك يجعله صديقاً للشيوعيين فى سوريا ولسائر الشيوعيين العرب، من دون أن يكون عضواً فى الحزب الشيوعي. وهذا كان حال العديد من أدباء وكتاب تلك الحقبة. لكن السلطات قلما تفرق بين شكل من الالتزام وشكل آخر. ولذلك كان العقاب يطول من كان على علاقة بالحزب الشيوعى حتى فى أدنى أشكال تلك العلاقة. غير أن شوقى بغدادى كان فى كثير من المناسبات السياسية فى تلك الفترة حريصاً على أن يكون فارساً من فرسانها، بما فى ذلك تلك المناسبات التى كانت من الناحيتين الفكرية والسياسية شيوعية الطابع بالكامل. وكان إسهامه فى بعض تلك المناسبات شعرياً. وكانت واحدة من تلك المناسبات الحملة الانتخابية التى قادت أمين عام الحزب الشيوعى خالد بكداش إلى سدة البرلمان. أكثر من ذلك فإن جوهر أفكار شوقى والموضوعات التى سادت فى شعره كانت تنتمى إلى الفكر اليساري، ليس كفكر مجرد، ولا كشعارات سياسية تعبر عنه، وإنما كقضايا ذات طابع إنسانى واجتماعى ووطني. وقد أدرك ذلك بوضوح الذين كتبوا دراساتهم فى تقييم شعر شوقي. ولم تكن المهمة صعبة فى رؤية وتحديد ما أشير إليه فى هذا الصدد. بعد خروجه من السجن تسلل شوقى بغدادى سراً إلى لبنان مع صديقه سعيد حورانية، حيث أقام عامين ونيفا فى ظروف نصف سرية. وفى تلك الفترة بالذات توطدت علاقتى به وبسعيد حورانية. وكان قد سبق شوقى وسعيد فى مجيئهما إلى لبنان تسللاً عدد كبير من الشيوعيين السوريين. لقد كنت دائما من قراء شعر شوقى بغدادى فى دواوينه، وبعضها قبل أن تصدر فى دواوين. كما كنت استمتع بالندوات الشعرية التى كان يقرأ فيها منفرداً أو مع آخرين من الشعراء بعضاً من قصائده. ولعلى أشارك بعض، من كتبوا عنه توقفهم عند الطابع الذى يجمع فى شعره بين التمرد والغضب والألم، وبين الإحساس بالخيبة والهزيمة . لكننى أميل إلى أنه لم يترك لليأس مكاناً فى شعره، وفى التزامه السياسى وفى الحلم بالتغيير الذى ظل يرافقه. لكن قدرته على التعبير عن مشاعره الدفينة إزاء وطنه فى تحولاته، وإزاء العصر وتحولاته، وإزاء الأفكار وتحولاتها، وحتى إزاء الحبيب، الحبيب الحقيقى والحبيب الرمزي، هى التى جعلته فى الفترة الثانية والثالثة من شعره يكسر القوالب الشعرية الكلاسيكية القديمة، ويدخل فى الحداثة بمعناها الزمني، لا بمعناها المطلق. إلا أننى أزعم أن الشكل الكلاسيكى للشعر العربى المعاصر لم يخل من ارتباط ما بالحداثة. . وقد لفت نظرى وأنا أقرأ لشوقى بغدادى بحثاً نشره فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى تواضعه عندما تحدث عن أبناء جيله من شعراء الحداثة فى سورياولبنان والعراق ومصر. وكاد ينسى نفسه ودوره بينهم، لولا أنه قرر أن يخرج قليلاً من ذلك التواضع ليقول انه هو أيضاً ساهم على طريقته فى تلك الحداثة الشعرية. وفى اعتقادى فإن دواوينه الأثنى عشر بتنوعها وتنوع عناوينها ومواضيعها وأزمنتها إنما تشير إلى دوره فى مواكبة حركة التطور فى الشعر العربى الحديث. أما قصصه وروايته الوحيدة ومسرحيته الوحيدة فلم أقرأها لكى أقدم رأيى فيها. إلا أنني، إذ أتحدث عن شوقى بغدادي، فإننى أتحدث عنه كمثقف ديمقراطى يسارى يكتب الشعر خصوصاً، ويبدع فى كتابته. وأتحدث عنه فى الوقت عينه كصاحب فكر يسارى لم يتخل عنه، برغم التحولات الدراماتيكية التى شهدها العالم فى أواخر القرن الماضي، ولا يزال يشهد آثارها. ورغم الأعوام التى سبقنى فيها شوقى بالاقتراب من الثمانين فإننى أرى فى شعره وفى شوقه إلى مستقبل أفضل لسورياوللبنان وللعالم العربى ما يجعلنى أثق أن حلمه بالتغيير هو الحلم ذاته الذى تحمله أجيالنا الشابة التى ستصنع مستقبلها ومستقبل بلداننا. لمزيد من مقالات كريم مروَّة