لدينا أزمة فى أخلاق المهنة تكاد تودى بالحرفية التى تميز بها المصرى على مدى التاريخ ، فقد تراجع الأداء المهنى والحرفى على مستويات عديدة، وتكاد تغيب فكرة الاتقان، يلحظ ذلك أكثر من عمل بالخارج وعايش كيف يقوم المهنى او الحرفى بدءا من السباك وحتى الطبيب بأداء مهامه بحرفية عالية وإتقان مشهود. لاى عمل جانبان: الأول فنى يتعلق بمهارات أداء العمل وفق القواعد العلمية او المهنية المتعارف عليها، والثانى أخلاقى يتعلق بآداب المهنة وهى مجموعة القواعد والآداب السلوكية والأخلاقية التى يجب أن تصاحب الإنسان المحترف فى مهنته تجاه عمله، وتجاه المجتمع، وتجاه نفسه. هناك ثلاثة منظومات رئيسية تشكل أساس أخلاقيات المهنة، وهى منظومة القيم الخاصة بالفرد طبقاً لتربيته وتدينه، ومنظومة القيم السائدة فى المجتمع بصفة عامة، ولوائح آداب المهنة التى تصدرها النقابات المهنية. وللمهنة او الحرفة فى مصر أخلاق وتقاليد ومهارات ارتبطت بها منذ فجر التاريخ، فقد كان الطبيب الفرعونى «إيمحوتب» أول من وضع ميثاق الشرف لمهنة الطب، خاصة العلاقة بين الطبيب والمريض باعتبارها سرا من الأسرار المقدسة. وهو عميد الأطباء فى التاريخ لأنه سبق أبقراط . ومن اقواله الشهيرة: «لا تسخر من الإنسان الذى به إعاقة ولا تسخر من الذى فقد بصره، ولا تضحك من الرجل الذى عقله فى يد الله - اى المجنون» هذا النهج الأخلاقى نجده فى المهن الأخرى خلال العصور الفرعونية، فأصحاب الحرف الذى قاموا ببناء المعابد والمقابر وزخرفتها أو بأعمال التحنيط، كانوا يتمتعون بالجانبين الفنى والأخلاقى ، ولو أنهم افتقروا للجانب الأخلاقى فاستخدموا مثلا مواد مغشوشة،لما ظلت اثار الفراعنة بهذا التألق فى البناء والألوان والزخرفة حتى العصر الراهن. بمقارنة بسيطة يمكننا معرفة الفرق بين اتقان الصنعة فى الماضى والحاضر، فقد ظلت الألوان تحتفظ برونقها على المعابد الفرعونية على مدى خمسة ألاف سنة، بينما قد تحتاج فى هذا العصر الى تجديد دهان البيت كل بضع سنوات. الأديان جاءت بأخلاق حافظت على هذه الرسالة، فعلى سبيل المثال نجد ان إتقان العمل احد تعاليم الإسلام وفقا للحديث النبوى «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» (رواه البيهقي). وفى الحضارة الإسلامية كان اتقان العمل وأخلاقيات المهنة سلوك عفوى لدى الحرفيين، وعندما تراجعت هذه الأخلاقيات، تطلب الأمر تدوينها ولم يكن ذلك عملا وعظيا، وإنما تم وفق دراسة لواقع الحرف ورؤية فلسفية تربط الإتقان بالرزق. فقد وجه رجل سؤالا لقاضى القضاة تاج الدين السبكى (توفى 771ه) لماذا ذهبت البركة من الأرزاق؟ لم يتعجل الرجل فى الافتاء باستدعاء أيات ولا أحاديث نبوية توضح البركة وعلاقتها بالرزق وفكرة الإخلاص فى العمل، وإنما رأى ان الأمر يحتاج الى أكثر من ذلك، فتأمل أخلاق المهنيين والحرفيين المتعلقة بأداء حرفهم وحصر 113 حرفة ومهنة فى زمنه، ووضع أخلاق كل مهنة فيما يشبه «مواثيق الشرف المهنى»، وجمع كل ذلك فى كتابه الشهير «معيد النعم ومبيد النقم» الذى اعتبره علماء الغرب اول كتاب فى علم نفس المهنة وترجم إلى لغات كثيرة . والسبكى بنى نظريته على أساس متين، من إخلاص شكر النعم لرب العالمين، وجعل لكل نعمة شكرا يقوم على تسخيرها لخدمة الناس، فبين الهدف من كل وظيفة وحرفه، وحذر من سوء استخدام النعمة، حتى لا تنقلب إلى نقمة. اليوم تطور ذلك فى العالم المتقدم إلى مدونات سلوك للمهن يحفظها كل مهني، انطلاقا من أن للعمل المهنى « مفهوما أوسع كثيراً من مفهوم الأداء الوظيفي، فهو يتطلب قيام الإنسان بأداء التزامات معينة تجاه عدة أطراف، وليس فقط استيفاء الحد الأدنى الموكل إليه من أعمال من قبل رؤسائه».بحسب ما ذكرت موسوعة ويكيبيديا. واستقرت الأعراف المهنية عالميا على أن المهنى او الحرفى يواجه أنواعاً خاصة من المشكلات ذات الطبيعة الأخلاقية، يتعين عليه أن يتعلم كيف يواجهها بشكل منهجي، ومن أمثلة ذلك ما قد يواجهها المهندسون من مواقف لا تتوافق مع الآداب العامة المقبولة للممارسة المهنية، كالحصول على أعمال بطرق الرشوة، أو تضارب المصالح بين العملاء (العمل كاستشارى للمالك والمقاول فى نفس الوقت مثلاً ) أو التغاضى عن الآثار الجانبية المدمرة للبيئة أو الضارة بالمجتمع عند تصميم وتنفيذ المشروعات. أما فى بلادنا فقد تراجع الاهتمام بأخلاق المهنة ومواثيق الشرف، وهى مسئولية تتقاسمها الجامعات والمعاهد من جانب، والنقابات الحرفية (العمالية) والمهنية من جانب آخر، وذلك بتكثيف الاهتمام بأخلاقيات العمل بالمناهج الدراسية، وتفعيل مواثيق الشرف وجعل المعرفة التامة بها شرطا أساسا فى الحصول على عضوية النقابات ثم متابعة الالتزام بها بشكل صارم فى ميادين العمل. والاهتمام بالتدريب وبرامج التعليم المستمر، حتى يستعيد المصرى مكانته اللائقة به وبتاريخه المهنى والحرفى الذى تعلم منه العالم كله. لمزيد من مقالات د. محمد يونس