وقع أيوب جاد الحق فى ورطة أنسانية، عندما تعلقت به طفلة، توهمت أنه والدها الغائب، وكانت أمها قد اخفت عنها موت أبيها وادعت أنه سافر الى إدغال أفريقيا. الأم الثرية طلبت من أيوب الموظف الكحيان، أن يبقى في المنزل بصفته زوجها الفخيم طبوزادة، الى أن تختلق للطفلة قصة أخرى. مع الأيام، وقع أيوب العاطفى فى غرام الأم الجميلة دولت عثمان لاظوغلى البيرقدار كاف، ولأن الرجل كان يدرك فداحة الفارق، ويعرف حدوده جيدا. فقد أرقه السؤال: أنا فين وانتى فين؟ قدم فؤاد المهندس وشويكار هذه المسرحية فى منتصف الستينات. أيوب جاد الحق الكائن المسحوق كان يتكلم عن حدود ومسافات انسانية. على الجانب الآخر، كان الاله تيرم، وهو أحد ألهة الأساطير اليونانية، مشغولا بحدود الأماكن، تيرم كان يقيم عند حافة العالم، ومن اسمه جاءت كلمة( تيرمنال) للدلالة على مناطق الوصول والسفر فى المطارات وعلى كل ما هو نهائي أو قاطع. إنه حارس الحدود، الضامن لعدم التجاوز، الذى ينتقم بقسوة من مغتصبى الأراضى، ولايسمح لأحد بالولوج الى العالم إلا بعد أن يعاين حدوده بدقة. أعتقد أن الاله تيرم كان سيغضب بلا جدال إذا ماسمع الحديث الدائر فى العقود الأخيرة عن ضرورة إزالة الحواجز، وتخطى الحدود. لأنه يدرك الحيلة التى بخفيها اللصوص دائما، فلن تفتح الحدود ليتواصل البشر وتتسع دوائر الحرية، وانما كي يواصل رجال المال تعظيم الأرباح، وتحويل أى حلم انسانى الى مشروع للمكسب، وكأن الغاية من التطور هو أن يتحول البشر الى مجموعات من المستهلكين.وكأن عالمنا يجب أن يتحول بأكمله الى سوق كبير. هذه الدعوات لن تخدع تيرم وهو يشاهد كيف تبنى الامبراطوريات المعاصرة قوتها النووية وتؤمن حدودها عسكريا، وكيف تسقط قنابلها فوق مدن الآخرين بحجج كثيرة ، وتحتل أراض بجيوشها، تحت شعار"عدالة بلا حدود". من لا حدود له لا مستقبل له. هذه مقولة للمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، الذى يرى أيضا أن البشر سيجدون انفسهم مجبرين، أمام شراسة العولمة، على إعادة الاعتبار لأبوابهم القديمة التي كان قد جرى فتحها تحت دعاوى براقة وكأنها الطريق الوحيد للدخول فى روح العصر. مسألة الحدود فى النهاية ليست أمرا لوجستيا فقط، صحيح أن مناعة وصيانة الحدود فى الواقع لا تخص الحدود، وانما هى مسؤلية المركز، والجغرافيا هنا مهمة بلا جدال. ولكن هناك فى مسألة الحدود المستوى الذى يمس الناس، ويمس أيوب جاد الحق بشكل مباشر، فلا يمكن أن يصون المركز حدوده، وهو منهمك فى تمزيق النسيج الداخلى للمكان وللعلاقات القائمة فيه، بالنهب والإفساد وإفقار الناس، وتوسيع دوائر البؤس فصيانة الكيانات الانسانية داخل حدود آمنة وكريمة للحياة، وضمان عدم التعدى، هو البداية وهو المحك ، تنظيم البيت من الداخل هو المسألة الكبرى، لأن الحدود ليست هى النهايات الفاصلة فقط، أنها ايضا خطوط البداية وبوابات الدخول الى الشىء ذاته، فعندما يعكف النظام على توزيع الأراضي فى الداخل على المحاسيب، فإنه يمزق بذلك التواصل المكانى والانسانى معا، وهذا هو بداية تآكل حدوده. وعندما تضخ الثروات التى جمعت من الفساد والنهب فى بناء مجمعات سكنية منفصله، ومحصنة خلف اسوارها العالية، ولديها بوابات عليها حراسة، يتأكد الفصل الكامل بين طبقات المجتمع بكامل شراسته، ونكون فى طريقنا الى تفكك كبير، فالفروق التى كان أيوب يتخوف منها فى الستينات، أصبحت مضحكة الآن، والمسافات اصبحت شاسعة، الانفصال لم يعد معنويا فقط وانما أصبح متجسدا وماثلا أمام اعيننا فى المكان أيضا. الثروة التى بلا حدود والسلطة التى بلا حدود، وخارج اى قواعد للمنطق،سعت الى تصفية كيانات المجتمع الفعالة، حتى يصبح المصريون سديما متشابها كذرات الغبار، وهكذا أصبحت المسافات بين مكونات المجتمع مرعية،وهى المقدمة الطبيعية للعنف، ويكفى أن التفاخر بالثروة ومظاهرة الفاجرة، وصل الى الأعلان عن فيللات، لكل فرد فيها حديقته الخاصة. حتى داخل القصر الواحد، لكل فرد حديقته. هزيمتنا القاسية فى 67 التى سقطت معها سيادتنا على جزء كبير من أراضينا، وعقود الانهيار التى تلتها، كانت بداية الانكفاء نحو المركز وأهمال الأطراف، وهكذا تم اختصار سيناء فى منتجع شرم الشيخ، واصبحت المحافظات الطرفية الأخرى زوائد بعيدة تثقل القلب القاهرى، وهكذا سنحت الفرصة كى تخترق الأنفاق الحدود وتم تهريب الأموال والموارد والخروج بها عبر كافة البوابات، وخلقت مساحات مفصولة عن سلطة المركز تهيمن عليها جماعات تفرض قانونها بالقوة على الأرض، وتنظم استعراضات عسكرية على الملأ. وفى الوقت الذى تسعى فيه القوى الاقتصادية المسيطرة على العالم إعادة رسم خرائط الأطراف غير المستقرة، نجد انفسنا منهكين فى معارك بائسة بالفعل، فالمركز الذى بيده القرار يعمل بالقطعة، ويسقط الحدود بين السلطات، ويتعامل بخفه مع ما لايمكن الاستخفاف به. هل هى بداية لتصدعات وشروخ مؤلمة، نتيجة رهانات خاطئة، أم أن الأطماع سوف تتوالى وعمليات التآكل سوف تتلاحق. سيظل سؤال الحدود إذا يؤرقنا، لأنه سؤال عن الحقوق وعن السيادة من جهة، ولأنه سؤال عن مصائر البشر من الجهة المقابلة، وعن تجاور البؤس المهين والثراء الخرافى جنبا الى جنب، الى هذا الحد الكارثي، لا بد بداية من وقف التصدع الداخلى، واحترام الحدود بين سلطات الدولة، والتوقف عن إهداء الأراضى بسخاء لتملكها جهات رسمية، وكأنها ليست وديعة للمستقبل. هل يدرك المسؤلون خطورة ما نحن مقدمون عليه؟ فالحدود والأرض مسأئل مصيرية، وقد دفعت الشعوب دائما للتضحية والشهادة من أجلها، وهى فى حالتنا، ليست مجرد فواصل مكانية يمكن إعادة ترسيمها، وانما هى بداية لتفكك أكبر،ولذا لا يجب أن تكون مطروحة من الأساس، أو أن تترك لسلطة ما مهما كانت شعبيتها لتقررمصيرها. لمزيد من مقالات عادل السيوى