ظروف صحية قهرية اضطرتنى للاحتكاك بنظام الرعاية الصحية فى فرنسا فى معظم جوانبه، مستشفيات.. أطباء.. تمريض.. علاج طبيعي.. معامل تحاليل.. صيدليات..الخ. ثلاث جراحات على مدى سبعة وثلاثين عاما، يعقبها فى كل مرة رحلات إجبارية متواترة للمتابعة الدورية. عندما نتحدث عن نظام الرعاية الصحية فى فرنسا فنحن نتحدث فى الحقيقة عن نظام للتأمين الصحى الإجبارى يغطى كل المواطنين الفرنسيين والأجانب المقيمين. أينما ذهبت يطلبون منى بطاقة التأمين الصحي، وتتسع العيون من الدهشة عندما أقول إننى لا أملك بطاقة تأمين صحى وأننى أتحمل جميع تكاليف العلاج على نفقتى الخاصة. الأصل فى الأمور أن التأمين الصحى العام يتكفل بتحمل 65% فى المتوسط من تكاليف العلاج للمواطن بدءا من أجر الطبيب والفحوص والتحاليل وثمن الدواء والمستلزمات الطبية وانتهاء بالجراحات وتكاليف المستشفى ودار النقاهة فيما بعد الجراحة. أما فيما يتعلق بالأمراض الخطيرة والحالات المرضية التى تتطلب فترات علاج طويلة فإن نظام التأمين الصحى العام يغطى تكاليفها بالكامل. طبعا السؤال الذى يرد على الذهن، وماذا عن الجزء المتبقى من التكلفة والذى يتعين أن يدفعه المواطن الفرنسي؟ الحقيقة أن هناك نظاما للتأمين الصحى التكميلى يقوم بتغطية الجزء الأعظم إن لم يكن كل التكلفة المتبقية. نظام التأمين الصحى فى فرنسا يشمل ليس فقط المستشفيات الحكومية وإنما أيضا غالبية المستشفيات والعيادات الخاصة. المستشفيات الحكومية تمثل نحو 64% من النظام. النسبة المتبقية مقسمة بالتساوى بين مستشفيات مملوكة لمؤسسات لاتهدف للربح، ومؤسسات خاصة ربحية. المهم فى كل ذلك أن هناك تسعيرة ملزمة للجميع! أجل أكرر.. هناك تسعيرة محددة لأجر الطبيب سواء الممارس العام أو الأخصائي، ولمتوسط تكلفة العمليات الجراحية المختلفة، ولأجر الغرفة بالمستشفي. يعنى لن تكون مطالبا بدفع دم قلبك فى مستشفى استثمارى أو لأن البيه الطبيب يرى أن الدقائق القليلة التى يمنحها لك فى عيادته تتطلب دفع مئات الجنيهات. المدهش أن هذه التسعيرة كانت تسرى علىَّ رغم أننى غير مقيمة ولا أتمتع بالتأمين الصحي. والعجيب أن الكل يسارع إلى منحى فاتورة بقيمة التكاليف ويوضح لى أنها قد احتسبت وفقا للتسعيرة المحددة من التأمين الصحي. لا محل لأى نصب أوضحك على الذقون لأن القانون والقرارات الرسمية تحدد تلك التسعيرة تفصيليا وبشكل دورى والمعلومة متاحة للجميع. أنا شخصيا تأكدت من انطباق تلك التسعيرة على كل بنود التكاليف المتعلقة بالجراحة والمستشفى فيما يتعلق بحالتي. فى بداية الألفية الثانية صنفت منظمة الصحة العالمية نظام التأمين الصحى فى فرنسا كأفضل نظام فى الدول الصناعية المتقدمة. الفرنسيون يرون أنه ربما لا يكون كذلك. يشكون من نقص الأطباء خاصة فى القرى والمدن الصغيرة، ومن التقييد الشديد لعدد الطلبة المقبولين فى كليات الطب، ويتحدثون عن ضرورة إلغاء السماح للأطباء بالعمل لحسابهم الخاص فى المستشفيات العامة. يقولون إن هناك ما يقرب من 7% من الأطباء العاملين بالمستشفيات، معظمهم جراحون وأطباء عيون ومتخصصون فى أمراض النساء، يسمح لهم بالعمل لحساب أنفسهم نصف يوم عمل مرة أو مرتين فى الأسبوع. الفرنسيون يحتجون لأن هناك نحو 43% من هؤلاء الأطباء يرفعون الأجر الذى يتقاضونه عن التسعيرة المحددة من التأمين الصحي. الفرنسيون يرون أن هذا النظام، والموجود منذ أواخر الخمسينيات يخل بالعدالة الاجتماعية ويمنح الأشخاص ذوى القدرة المالية الأعلى الفرصة للحصول على موعد مبكر مع الطبيب قياسا بالآخرين. واخد لى بالك من حكاية موعد مبكر.. لم يتحدث أحد عن فرق فى العناية الطبية أو نوعية الخدمة لأن هذا أمر غير مطروح وغير متصور أصلا. المهم أن حق الطبيب فى تحديد أجر أعلى من التسعيرة لعملاء النظام الخاص لا يعنى الشطط فى تحديد هذا الأجر. فالأمر يخضع لرقابة التأمين الصحى واتحادات ممثلى المرضي، ويتم توقيع عقوبات على الطبيب الذى يغالى فى تحديد الأجر. سلطات التأمين الصحى تقول إنه فى عام 2013 تم توجيه خطابات إنذار لعدد 170 طبيبا بشأن المغالاة فى الأجر، و أنه فى الشهر التالى لإرسال الخطاب كان أكثر من ثلثى هؤلاء الأطباء قد قاموا طواعية بتخفيض أجورهم دون حاجة للمضى قدما فى بقية إجراءات فرض العقوبة. طبعا من الصعب المقارنة مع الحال لدينا فى مصر. أعلم أن هناك فرقا كبيرا فى الإمكانيات المادية وتجهيزات المستشفيات والتدريب المتواتر لكافة العاملين فى الحقل الطبي.. وربما أيضا فى مستوى التقدم العلمي. أعلم أن الإنفاق على الصحة فى فرنسا يمثل ما يزيد على 11% من الناتج المحلى الإجمالي، وأننا مازلنا نكافح كى تصل هذه النسبة لدينا إلى 3%، وأننا مازلنا نسعى لإيجاد نظام تأمين صحى شامل يغطى كل المواطنين. قد تكون كل هذه الأمور قابلة للتحقق يوما ما. لكن الذى يحيرنى حقا ما هو نمط الإعداد العلمى والمهنى والنفسى الذى ينتج طبيبا يتعامل مع المريض دون أى غطرسة أو تعال، ويمنحه كل الوقت للإجابة على كل الأسئلة. ماهو نمط إعداد الطبيب الذى يجعلنى أفاجأ بالجراح رئيس القسم يأتى إلى فى كافيتيريا المستشفى فى اليوم السابق للعملية، ليحدثنى عن موعد العملية وما ستستغرقه من وقت والتوقيت الذى يمكن أن تأتى الأسرة فيه للاطمئنان علىَّ، ويقف معنا للإجابة على كل أسئلتنا واستفساراتنا؟. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى