صرخت بأعلى صوتى .. يا الهى كيف حرمت نفسى من الاستمتاع بهذه القيثارة الربانية البديعة؟..هكذا قلت لنفسى، منذ أكثر من 25 عاما خلت، عندما أصغيت بكل جوارحى لصوت القارئ الخاشع محمد رفعت. ذلك الصوت الملائكى الذى يبهرك بطلاوته، وعمقه، وصفائه، وزهده، ومساحاته العريضة التى يصول ويجول فيها، ويتحرك عبرها باقتدار ومهارة العارفين، وهى مساحات ومقامات يكاد يستحيل على الكثيرين الاقتراب منها، ولا حتى ملامسة أطرافها. معه تحس بكل حرف وكلمة، وآية يرتلها، ويرشدك بسلاسة فائقة إلى ما تحمله من معان دالة مشرقة تسعد وتثلج صدور السائرين على درب الهداية والصلاح، وتزلزل كيان ووجدان الغارقين فى اللهو، والمعرضين عن أبواب السماء، ويتفنون فى إيذاء الآخرين بوسائل وأساليب شتى . أنصت إليه وهو يتلو بلياقة صوتية مذهلة سورة الرحمن، لتشعر وكأنك تحلق فى السماوات العلى، وتمعن تلاوته لآياتها بما تشمله من شرح مستفيض واف لنعم المولى عز وجل على عباده الصالحين الأتقياء، وما ينتظرهم من خيرات وعطايا فى جنات النعيم، وتابعه وهو يردد بكل ذرة فى جسده النحيل «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ». لن تقدر على منع دموعك من الانهمار من فرط ما فيها من خشوع ونقاء وإحساس يدخلك فى عوالم سماوية صافية. لقد كان الشيخ رفعت رحمه الله رحمة واسعة مثلا يمشى على قدمين فى التقوى والورع، ومع أن الله حرمه نعمة البصر، فقد كان صاحب بصيرة، ويعمر قلبه بنور كتاب الله العزيز، كل الخصال السالفة انعكست بجلاء فى تلاواته، أو بالأحرى ما تبقى منها فى المكتبة الإذاعية، فالرجل لم يكن فى ظنى يتنفس الهواء الذى يدخل رئتينا، بل يستنشق أوكسجينه الخاص المستمد من ثنايا كتاب رب العزة. تشعر وهو يقرأ بعزة نفسه وعدم متاجرته بآيات الذكر الحكيم، ومن يتفحص سيرته العطرة سيعرف أنه رفض باباء وشمم الأموال التى دعا لجمعها الكاتب فكرى أباظة لمساعدته على العلاج من داء عضال أصاب حنجرته فى السنوات الثمانى الأخيرة من حياته، وقال إن قارئ القرآن يجب ألا يُهان. فعزة نفسه أبت عليه مد يده لمال كان يحتاجه، ويعلم أن من دفع قرشا أخرجه محبة وعشقا وتقديرا لشخص صان القرآن وسبحت روحه فى أنواره الساطعة. تأثير الشيخ رفعت كان واسعا بدليل أنه عندما توقف فى الثلاثينيات من القرن الماضى عن القراءة فى الإذاعة المصرية التى افتتحها بصوته أرسل محبوه برقيات يطالبون بعودته، وتقدمهم بعض الأقباط الذين أكدوا أنهم اشتروا الراديو خصيصا لسماعه، ومَن منا ينكر ارتباطه النفسى فى رمضان بأذان الشيخ رفعت الحنون الرقيق، وأنه لا يشعر بالشهر الفضيل الا بسماع صوته. وانظر كيف تحدث موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن رفعت الذى وصفه بأنه صديقه، وكان يجلس تحت قدميه ليتعلم منه ويخدمه، فالراحل الجليل وهبه الله طبقات صوتية نادرا ما تتجمع لدى شخص واحد، وكان متفردا ومختلفا تمام الاختلاف عن قراء عصره ومَن لحق بهم. إن الشيخ رفعت « 1882 1950 « ظاهرة لا تتكرر كثيرًا فى دولة التلاوة، فهو آية فى الشموخ والسمو الروحى، وقدوة فى الحفاظ على كتاب الله الكريم بكل كيانه، وعزاء محبيه أنه لا يزال حيا بينهم بتلاواته الخالدة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي