اصطحبت حفيدى مؤخرا لشراء نسخة ورقية من الصحف، ففاجأنى باحترام بمقولة «دقة قديمة» وعندما شرحت له أهمية متابعة الأخبار والمعلومات العامة، ذكر أن الوسائل الالكترونية المختلفة تمكن عائلته من كل ذلك والمزيد، بل توفر لهم فرصة متابعة بعض الأخبار بالتفصيل الدقيق بما يتجاوز ما ينشر فى الصحف، وتتيح لهم حرية اختيار الموضوعات التى تفيدهم، فى حين أن النسخ الورقية تفرض عليهم الموضوعات وكمية المعلومات المتاحة. خلال تفكيرى وتأملى لملاحظات حفيدى تذكرت أننى فى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وخلال حضورى مؤتمرا من مؤتمرات دافوس السنوية التى تجمع رجال الاقتصاد والعلم والمعلومات والسياسة، كنت قد توقفت منبهرا أمام احد المعروضات الالكترونية الخاصة بالإدارة وتحريك الكماليات المكتبية عن بعد، وفوجئت حينذاك بتعليق من شخص خلفي، يؤكد أن هذه التكنولوجيا قديمة وقد تجاوزتها الأحداث، متحدثا عن تكنولوجيا أقوي، وأكثر دقة وتنوعا، تمكن المواطن العادى من إدارة الكثير من أموره من خلال أجهزة يدوية صغيرة، يتنقل بها بحرية فى أماكن مختلفة، وكان هذا الشخص هو بيل جيتس مؤسس شركة ميكروسوفت، والذى لم يكمل دراسته الجامعية. ليس من المبالغة القول إن التحول الذى أحدثه اكتشاف الانترنت على الساحة الدولية، يوازى أو يتجاوز أثر الثورة الصناعية فى القرن الماضي، خاصة أنه وصل مباشرة إلى تعاملات الفرد العادي، فهل يمكن الاستهانة بأثر الكم الهائل للنقل الفورى واللحظى للمعلومات الضخمة وعبر القارات والبحار على التطور الصناعى والتنموى للمؤسسات والدول، أو أثر وسائل الإعلام وشركات شبكات التواصل الاجتماعى فى نقل المعلومات على فكر الفرد والمجتمعات، بكل ما تحمله من ايجابيات وسلبيات. عقدان من الزمن والقليل فقط بين رؤية مبتكر تكنولوجى واستفادة طفل ومجتمع من كل هذا، واعتبارها ممارسة حياته طبيعية، دلالة واضحة أن المستقبل ليس بعيدا، واستشرافه ممكنا لمن يفكر خارج الصندوق، ويترك العنان لتعدد التجارب وتنامى المعلومات، وتنوع الآراء بحرية، ومؤشرا أننا نعيش عصر الشفافية وتداول المعلومات يستحيل فيها حجبها طويلا، ولكى نواكبه علينا حسن إدارة توفير المعلومات الصحيحة وبمعدلات سريعة، وهو ما أخفقنا فيه بالنسبة للطائرة الروسية، وحادث ريجيني، وقضية الجزيرتين، وتحسن أداؤنا بشأنه فى تناول حادث طائرة مصر للطيران المنكوبة. دروس مفيدة لدى قناعة حقيقية فى أن قدرة التكنولوجيا على تغيير الأوضاع القائمة شبه مطلقة، وتؤثر حتى فى الجغرافيا والقيمة الإستراتيجية للموقع والمكان، والذى افترضنا دائما فى الماضى أنها من ثوابت التاريخ والمستقبل، والتى يمكن الاعتماد عليها، فالتكنولوجيا تسمح لنا بتخطى مسافات طويلة فى فترات وجيزة، ونقل الموضوعات والبضائع سريعا وبعيدا، ما يضعف من الميزة النسبية للموقع الجغرافى الاستراتيجي،وفتحت التكنولوجيا أفقا للتعاون ولامتداد النفوذ سلبا وإيجابا إلى مساحات لم تكن فى الحسبان فى الماضي، بل اعتقد أن التطور التكنولوجى السريع خاصة عبر النصف قرن الأخير، بدأ يؤثر جوهريا ليس فقط فى تداول المعلومات والسلع بل أيضا فى منظورنا العسكرى والأمنى والاقتصادى والسياسي. على سبيل المثال، اطلعت أخيرا على دراسات لأجهزة الاستخبارات العسكرية البريطانية والأمريكية عن «مناخ العمليات الأمنية عام 2035» و «الاتجاهات الدولية 2030: عالم متغير» وركزت هذه التقارير على المجالات الأمنية المرجح أن يحدث فيها تغيرات كبيرة نتيجة التطورات التكنولوجية، وعلى وجه الخصوص الأسلحة الجديدة، و أساليب إدارة الحروب. تحدثت التقارير عن المواد الجديدة التى لم تستخدم فى التسليح بعد، وعن الصواريخ البالستيكية المضادة للسفن، وعن الغواصات دون قبطان، ونظم دفاع الجوى التى يحملها الجنود المشاة، وعن تجاوز أغلب الصواريخ سرعة الصوت، والتقدم الهائل فى برمجة منظومات التسليح، والقدرات وتنوع وانتشار المنازعات الالكترونية، وعن تطور أجهزة التصوير متعددة الزوايا وانتشارها تجاريا، بما يسهل على الدول، وغيرها تصنيع أسلحة حديثة، بمعدلات أسرع وتكلفة أقل بعيدا عن الرقابة والمتابعة، ويسمح بنقل التكنولوجيا الحديثة، وانتشار هذه القدرات إلى الشركات الخاصة والمواطنين، بما فيها قنوات غير شرعية وإرهابيين، بما يحمله ذلك من فوائد وأضرار على المصلحة العامة والأمن والاستقرار. منذ اسبوع كنت مشاركا كضيف شرف لإلقاء كلمة فى مؤتمر عقد بمدينة بادن بالنمسا، تحاورت خلاله مع خبراء فى التسليح و التكنولوجيا، واستخلصت منهم أن هذه الأسلحة صنعت أو فى مجال التصنيع بالفعل، وأن ما يسمى زبالتكنولوجيات الفارقةس والتى تغير الثوابت والمعايير والمواءمات العسكرية، ستشهد انطلاقات عديدة خلال السنوات القادمة، وأكدوا أن العالم يشهد تنافسا شرسا وسباقا سريعا للحصول على هذه الأسلحة وخلق أنظمة دفاعية للتصدى لها. أود فى سياق التنويه إلى ضرورة متابعة مصر تطوير وحيازة تكنولوجيا الاتصالات والسيطرة والتوجه عن بعد على وجه الخصوص، والتى هى أساس العديد من الأسلحة الحديثة كانت صواريخ أو الطائرات، وكل الآليات والأسلحة الجديدة التى يمكن استخدامها عن بعد دون وجود عنصر إنساني، وهذا فضلا عن اكتساب خبرة الحصول على آليات التصدى للحروب الإلكترونية، والمتاحة للحكومات والشركات والأفراد وتحمل فى طياته مخاطر كبيرة، تؤثر مباشرة فى الاستقرار والأمن والأمان. شاركت أخيرا أيضا كمتحدث رئيسى فى محفل أكاديمى وسياسى أوروبى بالعاصمة الألمانية برلين، لمناقشة التجربة الأوروبية بإنجازاتها وإخفاقاتها، ولتقييم الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية المعاصرة وأثرها على المصالح الأوروبية، بغية طرح أفكار حول عمل أوروبى جماعى أو متعددة الأطراف للتعامل مع الواقع بكل ما يحتويه من فرص ويحمله من تحديات، وإنما الجزء الأطول من النقاش كان حول أوروبا والعالم بنظرة مستقبلية، مع إعطاء اهتمام خاص للوضع فى شمال أفريقيا والشرق الأوسط والعلاقات مع روسيا. قد تعرض الحوار لسيناريوهات متنوعة وحادة، من ضمنها على سبيل المثال بالنسبة للإرهاب أن الحل هو التصدى الأمني، أو أن التفاوض مع الإرهابيين هو الوسيلة المجدية، وقد رفضت النظريتين، لصالح مزيج بين الاثنين وعمل جماعي. وإنما الأهم من النتائج هو أن العالم حولنا يدرس ويخطط للمستقبل، بما فى ذلك خارج حدوده وما حوله، وآن أوان إجراء نقاش عربي- عربى حول الحاضر والمستقبل، خاصة حول كيفية الحفاظ على الهوية العربية مع احترام تنوعنا الشعبى الدينى والعرقى والثقافي، حتى لا نترحم مستقبلا على اتفاق سايكس بيكو، وعلينا مراجعة دور جامعتنا العربية فى قرن وظروف تختلف تماما عما أنشأت فيه، مما جعل بعض أعضائها يميز علاقتهما الثنائية، أو يفضل العمل من خلال المنظمات دون الإقليمية، كما على العرب التداول حول المنظومة الأمنية العربية المستقبلية، التى تحمى مصالحهم وتأخذ فى الاعتبار الظروف الإقليمية، والعلاقات مع دول الجوار غير العربى فى آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهى حوارات وقضايا حساسة، ولا أعتقد أن هناك أفضل من مصر لدفع هذا الحوار وإداراته مع الأخذ فى الاعتبار اهتمامات ومصالح الغير، وهو دور ضرورى إذا أردنا استعادة الجامعة العربية لفاعليتها ووضعها الإقليمي. المطلوب والمستهدف من كل ذلك على المستوى الوطنى والجماعى الإقليمى العربى هو التخطيط العلمى برؤية مستقبلية، والاستعداد للتحديات والمخاطر القادمة، ولأثارها على آليات التنازع، وعلى طبيعة النزاعات وشخصية المتنازعين مستقبلا، تخطيط يوفر لمن يملكه عامل الحسم فى توازن القوة، وأدعو جامعة الدول العربية ومراكز البحث فى بلادنا المختلفة فتح سلسلة حوارات جادة حول المستقبل، قبل أن يفوتنا القطار، ونتباكى دون فائدة، ثم نحمل المؤامرات الدولية مسئولية أخطائنا وسلبياتنا. إذا كانت التكنولوجيا من أهم عوامل تسريع معدلات التغيير فى عالمنا المعاصر، فالدافع الرئيسى للتغير هو سعى المواطن لتحقيق مستوى معيشى أفضل، وهو المعيار الحقيقى لتقييم النجاح أو تحديد سبل التقويم على الأقل فى الدول الديمقراطية، أو التى تشهد حكما رشيدا، الأمر الذى يتطلب إعادة التقييم والتقويم الدائم للسياسات والممارسات. ولا يختلف أحد على أن النظرية الشيوعية بتطبيقاتها فى النصف الثانى القرن الماضى فشلت فشلا ذريعا، خاصة إذا قورنت بنظرية «اقتصاد السوق» وما يرتبط بها من مفاهيم وسياسات رأسمالية، وإنما لعلها مفاجأة للبعض، أن إحدى الدراسات الأخيرة لجامعة هارفارد الأمريكية، وجدت أنه 19% فقط من الشباب الأمريكى ما بين 18 و 29 عاما اعتبروا أنفسهم رأسماليين، وأن هذه النسبة لم ترتفع عن 26% عند المراحل العمرية الأخرى الأكثر تقدما، ولخصت هذه الدراسة أن من أهم أسباب هذه الرؤية السلبية، والتحول بعيدا عن الرأسمالية، كانت أن المنظومة الاقتصادية الأمريكية لم تحقق أمانى الطبقة المتوسطة من المواطنين، فلم يرتفع متوسط دخل المواطن الأمريكى عام 2015 لكل ساعة عمل سوى دولار وربع عن مستواه عام 1965. بعد مراعاة نسبة التضخم، وقد استخلصت الدراسة أن التركيز المتزايد للنظم الرأسمالية، خاصة فى الولاياتالمتحدة على المنظومة المالية لتحقيق الربح على حساب المنظومة الإنتاجية، نتج عنه توجيه العائد الاقتصادى للطبقات العليا على حساب الطبقات المتوسطة أو الدنيا، ومن هذا المنطلق طالب عدد من الاقتصاديين العالميين بمن فيهم الأمريكى مصرى الأصل د. محمد العريان بمراجعه السياسات والثوابت الاقتصادية بما فيها الممارسات الرأسمالية ولتطويرها بما يخدم عامة الشعب. المشروعات العملاقة لقد شهدنا خلال العقود الماضية شركات كبرى متعددة الجنسيات، تتجاوز عملها حدود الدول والقارات، وتصل حجم أعمالها إلى ما يتجاوز الناتج القومى لبعض الدول المتوسطة، مما يخلق لها مصالح ونفوذا فى دول وقارات متعددة، هذا وتشير التوقعات الدولية إلى أن 60% من الطبقة الوسطى عالميا ستوجد فى آسيا بعد أعوام قليلة، بعد أن كانت دوما فى الدول الصناعية الغربية والأوروبية. كل ذلك مؤشرات أن عالمنا يتغير بشكل مستمر، وأن التمسك بالماضى غير مجدي، وأن تكرار تجاربه لن يكون له نفس المردود السابق، بل لم يعد مجديا، التغيير والتطور مطلوبان وحتميان، حتى بالنسبة للسياسات والنظريات والمسارات الرابحة حفاظا على فاعليتها وريادتها مع تغيير الظروف الوطنية والإقليمية والدولية. فى سياق تطورنا الاقتصادى فى مصر، أتفهم الحاجة إلى تحسين البنية الأساسية وأشجعها، كذلك إنشاء مناطق تجارية أو صناعية فى أماكن استراتيجية على سبيل المثال قناة السويس أو ميناء دمياط، للاستفادة القصوى من الموقع والمكان، وعلى غرار ما سبقتنا إليه دول أخري، وهى مشروعات جيدة لتعويض ما فات، وما لم نفعله فى الماضى ولقد سعدت سعادة بالغة بما أنجز فى القضاء على العشوائيات بما يحمله المشروع من معانى إنسانية و اجتماعية. اقترح أن نكون أكثر طموحا وأوسع أفقا فيما نطرحه عن المشروعات وأن نسعى لتحقيق طفرة اقتصادية بمعدلات أسرع، حتى نستطيع الاستجابة لاحتياجات المواطنين، بالتركيز وإعطاء المزايا والأولوية لكل ما يسهم فى نقل التكنولوجيا الحديثة والمستقبلية لمصر، ولتطوير التكنولوجيا فيها، من خلال توفير تسهيلات وإعفاءات للمستثمر التكنولوجي، أو للشركات المستثمرة وجزء ملموس من ميزانياتها وربحها فى البحث العلمى وتطوير التكنولوجيا وتدريب العمالة على تلك التكنولوجيات الحديثة، فضلا عن إنشاء مراكز تكنولوجيا فى بعض المحافظات الصناعية الأخري، بتحويل من الحكومة أو المحليات أو رجال الأعمال مقابل إعفاءات ضريبية، ليلجأ إليها ودعما للشركات الصغيرة والمتوسطة والتى لا تتحمل ميزانيتها الأولوية عبء التطوير التكنولوجي، وذلك على غرار التجربة اليابانية، وهو اقتراح يختلف تماما عما نسميه القرى الذكية فى مصر، وأغلبها قرى خدمية ومراكز اتصال لشركات عالمية، وليس قرى إنتاجية، أو مراكز بحث ونقل تكنولوجيا حقيقية. أنشأت منظمة الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والاستخدام الأول للأسلحة النووية، لمنع تعرض شعوب العالم لويلات الحروب العالمية مرة أخري، وكركيزة أساسية للنظام الدولى المعاصر، ووضع ميثاقها لينظم العلاقات بين الدول، وأعطى مجلس الأمن الدولى المسئولية الرئيسية فى حفظ السلام والأمن الدوليين، مع تحميل مسئولية خاصة للدول المنتصرة، على رأسها الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، وتميزهم بممارسة حق النقد أو الفيتو لقرارات المجلس. ومع تطور التاريخ انضمت إليهم الصين بعد ذلك بنفس المسئوليات والحقوق، والتى أصبحت الآن الاقتصاد الثانى عالميا، واتسعت عضوية الأممالمتحدة إلى 193عضوا. كل هذه مؤشرات واضحة أن المنظومة الدولية فى حالة تغيير مستمر أيضا، فى توازناتها السياسية والأمنية، وفى تنوعها وأسسها الاقتصادية، كذلك فى طبيعة النظام الدولى وقواعده، بما فى ذلك مسئولية ودور الدولة، والكيانات الاقتصادية الخاصة، وتطلعات وحقوق وممارسات الفرد أو المواطن. فى ضوء ذلك، قد آن الأوان لمراجعة ليس فقط عضوية وآليات عمل مجلس الأمن الدولى وإنما كذلك الفلسفة العامة والأسس الحاكمة للنظام الدولى المعاصر، والمبنية على زالتنافسيةس وستوازن القوةس والانتقال إلى مرحله جديدة على مفهوم «التكامل» وزتوازن المصالحس خاصة ونعيش بالفعل مرحلة تجاوزت فيها الكثير من قضايانا حدود الدولة، ويتطلب حلها تعاونا دوليا كان ذلك الإرهاب، أو تغيير المناخ، أو الأوبئة، أو ندرة المياه.. الخ. وهى أطروحات من الطبيعى والمنطقى والمفترض أن تتبناه مصر خلال عضويتها لمجلس الأمن حتى نهاية عام 2018. لمزيد من مقالات نبيل إسماعيل فهمى