مع تزايد وسائل الاتصال الاجتماعى بأشكالها المختلفة، أصبحنا نواجه بغيض من الرسائل والمقالات والأحاديث التى تتناول مشاكل الحياة من اقتصاد وسياسة وأدب وثقافة مروراً بالعلوم الطبيعية من نفس الشخص. فلم يعد غريبا أن يحدثنا نفس الشخص فى قضايا الاقتصاد وأسعار الصرف، لكى يستكمل الحديث غداً فى قضايا المياه وإصلاح الأراضى الزراعية، ولو يستبعد أن يبدى تعليقاته فى اليوم الثالث فى أحوال الرياضة وربما أبحاث الفضاء. وهو لا يقدم ذلك باعتباره نوعا من الدردشة بل باعتباره القول الفصل فى الموضوع. والسبب الذى دعانى إلى تحرير هذا المقال، هو أننى أقرأ حالياً فى كتاب حديث لمؤلفه ميرفى كينج. وميرفى كنج كان حتى وقت قريب (2013) محافظا للبنك المركزى البريطانى. وقد تخرج كنج فى جامعة كمبردج بانجلترا فى الستينيات فى القرن الماضى، واستكمل دراسته العليا فى جامعة هارفارد فى الولاياتالمتحدة فضلا عن بعض الجامعات الأمريكية الأخرى، وعمل بالتدريس فى الجامعة، والتحق بالبنك المركزى البريطانى فى 1991، حيث شغل منصب مدير إدارة البحوث ثم تدرج فى وظائف البنك حتى تولى منصب المحافظ لمدة عشر سنوات حتى 2013. وقد منحته ملكة انجلترا لقب «لورد» تقديراً لجهوده فى خدمة بلده. وقد رأى كنج كعادة غيره من الكثيرين ممن تولوا مناصب مهمة أنه من المناسب أن يكتب كتابا يسجل فيه تجربته، وخاصة فيما يتعلق بمواجهة »الأزمة المالية العالمية« التى انفجرت فى عام 2008، وكادت تعصف بالاقتصاد العالمى. وقد وضع عنوانا لهذا المؤلف «نهاية الخيمياء» والخيمياء Alchemy Chemistry ما كان سائدا فى العصور الوسطى من الاعتقاد بإمكان تغيير خصائص المعادن بنوع من الخرافات واستخدام ما يعرف بحجر الفلاسفة لتحويل المعادن المعروفة إلى ذهب. والذى يريد أن يقوله كنج، هو أننا، ورغم ما تحقق من تقدم علمى، فإننا لا نزال نعتقد فى بعض الأساطير والخرافات، وأنه قد آن الأوان إلى أن نتخلص من ذلك ونواجه الحقائق كما هى. وكما هو متصور، فقد ركز كنج فى كتابه على موضوع البنوك والمؤسسات المالية والتى تلعب دوراً متزايداً فى الحياة العامة المعاصرة. وليس هدفى من هذا المقال تلخيص ما ورد فيه من أفكار عن أوضاع البنوك والمؤسسات المالية، ولكن أردت فقط أن أشير إلى ملاحظة مهمة، أثارت اهتمامى، وهى التواضع الشديد لمؤلفه. فهذا الشخص الذى حصل على هذه الدرجات العلمية وتلقى العلم فى أهم المراكز الدراسية فى العالم، وشغل أهم المواقع تأثيراً فى الحياة الاقتصادية، فإنه لا يخجل من الإشارة فى هذا الكتاب إلى إجاباته أمام لجنة برلمانية شكلاً مجلس العموم البريطانى لسؤاله عن الكثير من الأمور والتطورات الاقتصادية والتى قد تغيب على عقول أعضاء البرلمان. فماذا كان يقول كنج، وكيف كان يجيب عن هذه الأسئلة؟ هناك أمور يعرفها جيداً، فكان يعرضها عليهم ويشرحها بتفصيل، ولكن هناك أموراً أخرى، قد فاجأته قائلاً: إننى لا أعرف كيف حدث هذا؟ أو يقول، ليس لدى مرآة سحرية لقراءة الغيب. (صفحة 122 من ذلك الكتاب. هذا هو محافظ البنك المركزى البريطانى، وحيث تمثل سوق لندن ربما أهم سوق عالمية للأوراق المالية، وفى كثير من الأحوال، كان كنج يرى أنه غير قادر على إعطاء تفسير مقنع فيما يتعلق بالأزمة المالية عام 2008، حيث فاجأت العالم بما فيها أهم المراكز المالية بما لم يكن متوقعا، أو على الأقل بهذه الصورة المخيفة. وليس معنى هذا أن كنج لم يكن لديه ما يقوله عن هذه الأزمة، فالكتاب كله محاولة للشرح والتفسير لما حدث، وأيضاً لما أبرزته أحداث هذه الأزمة من أمور كامنة حيث كانت خافية أو غير واضحة بشكل كامل أمام المسئولين عن السياسات المالية والاقتصادية. وليس معنى أن تكون معرفتنا السابقة ناقصة، أننا كنا على جهل تام، ولكن هناك مجالاً لمزيد من المعرفة والتعلم من تجارب الماضى. والكتاب كله هو محاولة لاستخلاص العبر وتصليح المفاهيم فى ضوء هذه التجربة القاسية. وقد كانت أزمة الثلاثينيات من القرن الماضى أمراً مشابها، وقد خرج منها العالم وقد تعلم الكثير، وخاصة فى ضوء ما استخلصه فى ذلك الوقت الاقتصادى البريطانى كينز عندما نشر مؤلفه عام 1936 وغير المفهوم السائد منذ الاقتصاديين التقليديين. فقد كان السائد، وقتذاك، هو أن »العرض يخلق الطلب« قانون سامى) فإذا بنا نكتشف مع كينز أنه، فى الدول الصناعية المتقدمة، فإن العكس هو الصحيح، وأن «الطلب هو الذى يخلق العرض المقابل له«، وأن أزمة العالم الرأسمالى آنذاك، كانت فى نقص الطلب، الأمر الذى أدركه روزفيلت، ثم بقية العالم المتقدم بعد ذلك عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وليس معنى ذلك أن نظرية الاقتصاديين التقليديين، مع آدم سميث وريكاردو وساى، كانت خاطئة، بل أنها كانت صالحة، ولا تزال صالحة لدول فى طور البناء، أما بعد ذلك وبعد أن تتحقق الثورة الصناعية وترتفع معدلات الدخول الفردية فإن قطرية كينز تكون أكثر ملاءمة. وقد كان الاقتصاديون دائماً على وعى وحرص على وضع الضوابط على مقولاتهم، فإحدى دعائم «نظرية الأثمان»، التقليدية، تتحدث دائما عما يعرف »ببقاء الأشياء عن حالها« ويستخدم فى ذلك التعبير اللاتينىCeteris Paribus ، فعندما نقول فى نظرية الأثمان، إن زيادة الطلب تؤدى إلى ارتفاع الأثمان، فإن ذلك منوط ببقاء الأشياء الأخرى على حالها.، مثل الدخل أو تغيير الأذواق أو أسعار السلع الأخرى. وأحد أهم صعوبات علم الاقتصاد أنه يتعامل، فى الغالب، مع المستقبل، وهذا المستقبل ليس بالضرورة تكراراً للماضى. ومن هنا اهتم علم الاقتصاد بالمخاطر، فالاقتصاد كله تعامل مع المستقبل، وهذا الأخير ملئ بالمفاجآت، فضلا عن الاحتمالات المتوقعة بدرجات مختلفة. ومن هنا جاء الاقتصادى الأمريكى فرانك نايت Knigt فى رسالته للدكتوراه ثم فى كتاب لاحق، مشيراً إلى أهمية التمييز بين ما أطلق عليه المخاطر Risk وبين عدم اليقين Uncertainty ، أما المخاطر، وهى وإن لم تكن يقينية، فإنها احتمالية ويمكن أن تعرف بدرجة ما من درجات الاحتمال. ولذلك فهو يرى أنه يمكن قبول المخاطر والتعامل معها، لأننا بشكل أو آخر نعرف نسبة تحققها، أما عدم اليقين، وحيث لا نعرف عنه شيئاً أو مدى احتماله، فإنه لا يمكن قبوله. فمع تقدم علوم الإحصاء، أصبح من الممكن التعامل مع الأحداث الاحتمالية. وفى جميع الأحوال، لابد من توافر المعلومات الكافية والمفيدة، والتى تساعد على اتخاذ القرار المناسب. والذى أود أن أقوله من هذه المقدمة الطويلة، هو أن الحوار والمنافسة أمور ضرورية. ولكن الحوار ينبغى أن يدور حول أمور معلومة للكافة أو على الأقل يتوافر حولها قدر معقول من المعلومات الثابتة والمتفق عليها. أما إذا كانت المعلومات المتاحة ناقصة أو غير كاملة أو متعارضة، فإنه لا جدوى من الحوار حتى تتضح الصورة. وقد جاء الحوار حول قضية جزر مضايق تيران نموذجاً بائسا للحوار، ليس للاختلاف بين الآراء وإنما للخلاف حول الوقائع. وفى هذا الصدد، فإنه لا خلاف فى أن الحكومة قد فاجأت الرأى بقضية عامة دون أن تطرح كل تفاصيلها ومقدماتها ووثائقها على الرأى العام. وبالمقابل، فإن الاتهام بالخيانة والتفريط فى السيادة، ليس من الأمور التى تلقى بخفة أو رعونة. المطلوب هو الارتفاع بالمسئولية وعرض كافة الحقائق والمواثيق وتشكيل اللجان الموثوق بها من أهل الاختصاص، وتقديم البيانات الكافية والموثقة. القضية ليست قضية رأى بقدر ما هى قضية معلومات. وليس عيباً أن نقول، أننا لا نعرف الحقائق الكاملة، ودون ذلك يصعب تكوين رأى. وأعتقد، والله أعلم، أن الغالبية من المصريين لا تعرف كل المعلومات اللازمة. وفى مثل هذه الأوضاع، فإن من يقول: لا أدرى، فإنه وفقاً للفقهاء يكون قد أفتى. وأعتقد أن الغالبية العظمى من الناس لاتعرف كافة الحقائق الاساسية ولا أستثنى معظم أصحاب الأصوات العالية والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي