يقدم لنا الكتاب المقدس حقيقة مهمة، أنه بسبب عدم طاعة الإنسان حدث انفصال بينه ويبن والله، هذا الانفصال أدى إلى خسائر كبرى فى تاريخ الإنسانية، فلقد فقد الإنسان الاتصال المباشر مع الله وخرج خارج جنة عدن، بمعنى أنه خرج خارج حضرة الله وأصبح لديه درجة من الاستقلالية لمعرفة الخير والشر، وإن لم تمكنه هذه المعرفة من اختيارات سليمة بل منعته من الحياة بالمفهوم المطلق، إذ فسد الإنسان بسبب الخطية، وأصبح مستعبدًا لها. وذلك قبل الفداء. لعل أهم ملامح مرحلة ما بعد السقوط هو محدودية الإنسان فى المعرفة ومحدوديته فى الحياة، هذه المحدودية هى نتيجة طبيعية للانفصال عن الله ومن هنا يأتى الإعلان الأول للمصالحة من خلال نداء الله للإنسان وهو خارج عدن واكتشاف أنه عارٍ وبلا ستر وصُنع أقمصة من جلد الحيوان لسترته، فدم الحيوان المسفوك هذا من أجل سترة الإنسان كان الرمز الأول لبناء الجسور مع الله. وهنا كان الإعلان الأول عن الحياة والتواصل مع الله من خلال الدم، فالدم هو رمز الحياة وأقمصة الجلد التى كانت للستر هى أيضًا نتاج سفك دماء. لقد ذبح الحيوان وسفكت دماؤه ومن جلده صُنع ستر للإنسان ليستطيع اللقاء والحديث مع الله. (تك 3: 6، 21) وتأتى الذبائح فى العهد القديم كاستمرار لهذا المفهوم، حيث قدمت الذبائح للتكفير عن الخطايا وكذلك لبناء الجسور مع الله. فالذبائح منذ آدم وحتى مجيء السيد المسيح كانت تمثل رمزًا واضحًا لمنح الحياة من خلال غفران الخطايا وبناء الجسور مع الله. وفى مجيء السيد المسيح، وحياته وموته وقيامته، قدم السيد نفسه ذبيحة حية، وبدمائه قدم حياة جديدة لكل الذين يؤمنون به، وبقيامته صنع جسرًا جديدًا للعلاقة مع الله، وهكذا فإن رمز الدم فى ذبائح العهد القديم تحقق بالفعل لكى يبنى جسرًا جديدًا بين البشر والله. هذه العملية ببساطة هى المصالحة مع الله. فى ذكرى القيامة نتذكر، أن أساس المصالحة فى الكتاب المقدس هو إعادة بناء الجسور بين الإنسان وخالقه، هذه الجسور تأتى بالإنسان إلى علاقة جديدة مع الله والتى من أهم ملامحها هو المعرفة الجديدة والحياة الأبدية لكن الكتاب المقدس يعلن بوضوح أن المصالحة مع الله تتطلب بعدين آخرين للمصالحة هو العلاقة مع الآخر والعلاقة مع الخليقة المحيطة. إن النظرة الكتابية للمصالحة مع الآخر تمثل توجهًا رئيسيًا فى الكتاب المقدس بعهديه. فمفاهيم المساواة وقبول الآخر، هى كلها فى مضمونها تسعى إلى بناء الجسور. ولعل النص الذى يتحدث عن محبة القريب كالنفس هى خير دليل على هذا الموقف الكتابي. (مت 5: 34؛ مت 22: 39؛ لو 10: 26- 28) فالنظرة إلى حياة السيد المسيح نجد فيها بوضوح أن العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان مهمة وجوهرية ولعل صلبه وموته وقيامته تمثل الأساس لمصالحة الإنسان مع الله ومع أخيه، إذ تم بناء الجسور بين السماء والأرض. إن مفهوم المصالحة فى الكتاب المقدس لا يقف عند حدود العلاقة بين الإنسان والله، والإنسان وأخيه الإنسان فقط، لكنه يمتد إلى الخليقة ككل. ولعل كلمات الرسول بولس: «أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ» (رو 8: 22) هو تأكيد لمفهوم عميق حول المصالحة بين الإنسان والخليقة أيضًا. إن الخراب الذى أوجدته الخطية على مستوى العلاقة بين الله والإنسان والخليقة كان مدمرًا، هذا الانفصال ساهم فى حروب بشرية ودمار وسفك دماء وتخريب وتدمير للطبيعة وانتهاك للبيئة، فالتعامل الهدام ضد البشر، وكذلك سلب الثروات الطبيعية وإفسادها والسعى إلى الهيمنة على مستقبل البشرية، هو الذى خلق العالم المشوه الذى نعيش فيه اليوم. فى هذا الإطار تأتى قضية المصالحة مع الخليقة كقضية مهمة وحاسمة فى الألفية الثالثة من التاريخ البشري. فلقد أدى الاستخدام المفرط لمواردنا الطبيعية إلى دفع الخليقة ككل إلى لحظة خطيرة ودقيقة فى تاريخ الإنسان وتاريخ الكون، هذا الاستخدام المفرط أدى إلى الاحتباس الحرارى وثقب الأوزون وتغير المناخ وندرة الموارد فلقد ساد نموذج لعلاقة بين البشر والخليقة يمكن تسميتها بعلاقات الأنانية فلقد تصرف أباؤنا وكذلك نحن وكأنه لا أجيال قادمة لهم الكثير من الحقوق فى التعامل مع الموارد الطبيعية، هذه العملية الاستنزافية ساهمت فى الكثير من التدمير وتنذر بمستقبل غير مطمئن للأجيال القادمة. فى عيد القيامة، تأتى قضية المصالحة كمفهوم ضرورى وحيوى وشامل للمستقبل. إن القراءة النقدية لعوامل الانقسام والاستعلاء وسوء الاستخدام يجب ألا تقف فقط عند التحليل والرصد لكنها يجب أن تتجاوز ذلك إلى بناء الجسور. هذه العملية من بناء الجسور هى جوهر المصالحة. وفى ذكرى القيامة، نصلى أن يعم الخير والرخاء بلادنا، ويلهم الله قادتنا بحكمته، ويستقر سلام الله الذى يفوق كل عقل فى قلوب كل المصريين. لمزيد من مقالات القس اندريا زكى