نعت حديقة حيوان الجيزة الشمبانزى «بوبو» (11 عاما)، وقالت إنه مات بأزمة قلبية، وشكلت الحديقة فريقا طبيا لمتابعة بقية أفراد عائلة «بوبو»: «البرنس، ودودو ، ولوزة»، الذين أصابهم الاكتئاب وامتنعوا عن الطعام. نفوق «الشمبانزى» خلف رزمة أسئلة، عن أسباب الرحيل المفاجئ، بدءا من وجوده مسلوب الحرية والإرادة، داخل القفص، أو أنه كان مرهفا حساسا، لحد الموت كمدا، بعد عجزه عن تحمل «رذالات البنى آدمين» ومكايداتهم، وقذائف الموز والفول السودانى.. احتمال آخر يصعب إغفاله، أن «بوبو» انتحر، زهقا مما يحدث فى مصر والغياب المفرط للعقلانية والحضور الجارف لتصرفات مرتبكة، من لاعبين ومشاهدين هنا وهناك، على نحو مثير للاستغراب..!! لايمكن المكابرة أن هذا التفسير ربما يكون خاطئا أو صائبا، لكن هل تنكر أن تناقضات المشهد المصرى قادرة على الذهاب بعقل المواطن الحليم، وليس الشمبانزى، فكم خبر تحمله صفحات الحوادث عن حالات انتحار لأفراد، هربا من قسوة المعيشة.. إنه مجرد عرض لمرض، وسط دوامة تتسع دوائرها مع طوفان الأزمات فى حياتنا، بدءا من البطالة بين الشباب والتضخم والارتفاع الرهيب لأسعار السلع، فى ظل قصور الإنتاج الوطنى وطغيان الاستيراد الترفى، ووحشية ما يفعله الدولار بالجنيه المريض، وانسحاق الغلابة والطبقة الوسطى، تحت حمولة الضغوط الثقيلة الآتية من التعليم المتراجع والصحة المتدهورة والخدمات القاصرة.. الفقراء لايحصلون سوى على فتات ما يتساقط من الطبقة العليا (10% أطبقوا على 90% من الثروة الوطنية)، زحفوا على مقاعد البرلمان وتحكموا بالفضائيات والصحف الخاصة، فارضين أجندتهم واختياراتهم على المجال العام، بإعلام يعبر عن رغباتهم لا مصالح عموم الشعب، حتى إن هناك من يرفضون إعادة ما نهبوه من أراضى الدولة، بما يتراوح قيمته بين 350 و600 مليار جنيه، ناهيك عن أبواب الفساد الأخرى التى لاتزال «مواربة»، برغم الجهود الكبيرة من جانب السلطة للجم أربابه.. يفاقم من المعاناة شعور سائد بسفور عصا الأمن وخفوت الأداء الاقتصادى وجفاف بحر السياسة، تبدى فى التعامل مع أزمات إسقاط الطائرة الروسية ومقتل ريجينى وتهور بعض أمناء الشرطة فى الاعتداء على المواطنين، وأخيرا جزيرتا تيران وصنافير وحرب الوثائق بشأنهما، وكان الأجدر والأكرم للجميع ترك الأمر للبرلمان كى يحسم الأمر بضمير وطنى قبل أى اعتبار، بعد تشكيل لجان استماع تفتح براحها لكل الآراء والحجج بشفافية ونزاهة، دون أى قيود. ما حدث شج جرحا وحشاه بالملح، إنما تظل الفرصة قائمة، إطفاء لنيران مشاحنات يوقدها (أهل الشر) وأسيادهم وأتباعهم، بالموازنة بين ضرورات الحرية فى بلد خارج من رحم ثورتين عظميين ومتطلبات الأمن فى وطن مصيره على المحك، يقاتل شياطين الإرهاب ومخططاتهم السافرة لمصر والمنطقة، هنا تظهر خطورة أصوات زاعقة تدعو للنزول بسقف الحريات وإلغاء التباينات بين تيارات المجتمع، وصياغة ما يشبه «الإجماع» نحو كل القضايا، وهو توجه يكشف عن قصور فى الوعى الإدراكى، وخلل فى معرفة «مفهوم السياسة» من أساسه، لأن علماء السياسة أنفسهم يرون أن «الإجماع» مستحيل فى السياسة، لأنها تنبنى على الاختلاف والتنوع، والديمقراطية هى إدارة للخلاف «المطلوب» فى نطاق المؤسسات، ومن حق الجميع الذود عن آرائهم بشكل سلمى، وفق طريقة متعارف عليها، بعض الإعلاميين الصارخين من المطبلاتية والمحسوبين على السلطة، للأسف، هم أعدى أعدائها فى الآن نفسه، يتغذون على صنع «الفزاعات» والتخويف، سعيا لتجيير الفضاء السياسى وإعادتنا لعصر الصوت الواحد، وينسون أن 28 مليون مصرى يحيون الشطر الأعظم من يومهم على مواقع التواصل الاجتماعى التى باتت مصدرا لأخبار و عنصرا حاسما فى تشكيل الرأى العام وتحريكه أو فرملته يغفل هؤلاء أن الرئيس السيسى برغم الاعتراف بتأثر شعبيته، يحتفظ برصيد ضخم لدى شعب اختاره فى لحظة مفصلية من تاريخه، وأطلق عليه وصف «الرئيس الضرورة».. الرجل «قائد تنموى» يسخر معظم طاقاته وخططه للبناء: قناة السويس الجديدة ومشروعات الطرق والكهرباء واستصلاح الأراضى والإسكان الاجتماعى والعاصمة الجديدة وتحديث القوات المسلحة ومحاصرة الإرهاب ، تنمية الثروات الطبيعية، مثل حقول الغاز فى المتوسط.. براهين ساطعة. ويخطئ من يظن أن جماعة المليارديرات وذيولهم فى الأحزاب والإعلام هم من يدعمون الرئيس، أكبر سند له يأتى من «السواد الأعظم من الشعب»، الذي يثق بالرئيس، وإن كان بعضهم غير راض عن بعض الظواهر والسياسات ومعدلات الأداء، وهذا أمر طبيعى فى كل بلاد الدنيا. تسدد مصر اليوم فاتورة باهظة لأخطاء أنظمة ملكية وجمهورية، وتحولات موازين القوى العالمية، تحديات مؤلمة لايجدى معها «تدوير الزيت القديم فى أوعية جديدة»، هناك من لايدركون الفالق العظيم بين الاستقرار والركود، ومن ثم يحتاج ملف حقوق الإنسان مراجعة عاجلة لتحسين أوضاع المصريين وصورة المحروسة المشوهة بالخارج - يتخذها البعض ذريعة لممارسة ألاعيبه ضدها- الأمن (الرشيد لا الطائش) لاغنى عنه والحرية (المسئولة لاالفهلوة) ضرورة، بدونهما لاتنمية ولاتقدم، فالأوطان طائر لايستطيع التحليق بجناح واحد، ومن الطبيعى أن الشعوب الراغبة فى الازدهار تواجه قدرها بالأمل والعمل، وهى تدور بين أوقات الفرح والحزن، لكن الخوف لايبنى بلادا إنما يقتل حتى أشباه «بوبو»..! [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن