أنا رجل فى الخمسين من عمري، ولكنى أشعر بأننى تجاوزت السبعين بسبب الظروف الصعبة التى مررت بها فى حياتي, فلقد ولدت فى أسرة ثرية، وعندما بلغت سن العاشرة تعثرت تجارتنا، وانقلبت حال أسرتى تماما, واضطر والدى إلى السفر لدولة عربية حتى ينأى بى وبإخوتى ووالدتى عن المشكلات التى كانت تنتظرنا بعد ما ألم بنا، وهناك عرفت معنى الغربة ومررت بتجارب مؤلمة وأنا مازلت طفل، والتحقت باحدى المدارس، وواصل والدى كفاحه وتحسنت أوضاعنا المادية، وظللت فى هذا البلد حتى انهيت دراستى الثانوية, وعدت الى مصر، وتعثرت فى دراستى الجامعية لأول مرة فى حياتي، وساءت حالتى النفسية كثيرا، ولم يمر وقت طويل حتى عاد والدى إلى مصر, وأحيا تجارته القديمة، مما دفعنى الى أن أترك دراستي، وأعمل بتجارته ظنا منى أنها الأمان والمستقبل, ورغبته فى أن أكون بجانبه, وأعجبنى اصراره على النجاح والوقوف على قدميه من جديد. وفكرت فى الزواج, ولم يكن هناك أفضل من زميلة لى تعرفت عليها قبل أن أترك الدراسة, وشعرت بحب جارف لها، وتملكتنى مشاعر الحب الأول, ولمست فيها الحنان والصدق, ورأيت فى عينيها الاهتمام, وأصبحت هى ملاذى الوحيد حينما يشتد بى الضيق, وألحت على فى استكمال دراستي, فحاولت أكثر من مرة، لكنى فشلت لعدم رغبتى فى هذه الكلية فنصحتنى بالالتحاق بكلية أخري، وبعد كل ذلك جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن, فقد تكررت الخسارة نظرا للظروف الصعبة التى واجهناها، وأشفقت على فتاتى مما نعانيه، فعرضت عليها أن تفسخ الخطبة لكى تتحرر من أى قيود وتختار من هو مناسب لها, فرفضت بإصرار وهى تبكى من هول الموقف, ثم اتخذت قرارا بالتوقف عن الدراسة لكى أحاول أن انقذ ما يمكن إنقاذه من تجارة والدي, وكأن للقدر رأيا آخر فلقد أفلس من جديد, ووجدتنى مهددا بالسجن وبلا عمل ولا شهادة وأنا فى الخامسة والعشرين من عمري، فاستعذت بالله وفكرت فى اقامة مشروع منفرد لى فى نفس المجال الذى نعمل به, وطلبت من أسرة خطيبتى أن نتمم الزواج فوافقوا على استحياء, وبدأنا حياتنا الزوجية, ويبدو أن مثلي، مخلوق للشقاء إذ اشتدت العواصف علي، وواجهت مطاردات قضائية عديدة بسبب ضمانى والدى فى قروضه السابقة، وتوقف مشروعى الجديد, ولم تتحمل زوجتى هذا العذاب، فطلبت الطلاق بإصرار، ولا أدرى كيف تحول الحب الجارف إلى ضيق وطلب انفصال. وكانت هذه هى الصدمة الكبرى فى حياتي، ووجدتنى أصر على مواجهة متاعبي، وتحديت نفسى وأكملت تعليمى وانهيت خدمتى العسكرية والتحقت باحدى الشركات موظفا لأول مرة، ورزقنى الله بزوجة صالحة صبورة تحبنى وتخاف الله, ورزقنا الله بطفل جميل، ثم رحل والدى عن الحياة، وتذكرت قصته مع الكفاح والصبر والنجاح ثم المرض والرحيل، وأردت ان أشركك وقراء بابك الجميل فى معرفة قصتى والدعاء لأبى بالرحمة والمغفرة ولى بالتوفيق ومواصلة مشوار الحياة. ولكاتب هذه الرسالة أقول: «لا يأس مع الحياة, ولا حياة مع اليأس», فلو أن الإنسان استسلم للضغوط والمتاعب سوف يجد نفسه بين عشية وضحاها أسير الوهم والمرض, لكنك برغم كل ما عانيته من ظروف قاسية، واصلت حياتك بهمة وصبر، فكان حقا لك أن يثيبك الله بالعمل المناسب والزوجة الصالحة, بعد أن هجرتك محبوبتك الأولى ولم تقو على مواجهة الأنواء والأعاصير. أما والدك الراحل فلقد كان نموذجا مشرفا للرجل العصامى الذى بدأ حياته من نقطة الصفر, ومضى يواصل كفاحه ونجاحه حتى صار واحدا من اشهر رجال الأعمال فى مصر, ولم ينكسر أمام المحن المتوالية, وكان صبره عظيما, ومثله يستحق أن يكون مثلا أعلى فى الإصرار على النجاح والرضا بما قسمته المقادير، ولقد فعل كل ما عليه وترك الأمر لله, ويكفيه أنه ظل حتى النهاية متماسكا, وقانعا بما هو فيه. وأحسب أن رجلا مثلك يجب أن يعتز بنفسه وبقدراته ويحمد الله على ما أفاء به عليه, ويشعر أنه مازال يمسك بأوراق الربيع وزهوره, ولا يتسرب إليه اليأس فيحس بأنه فى السبعين من عمره وأن أوراق الخريف قد بدأت تتساقط من حياته حتى إنه لم يبق له فى الدنيا أمل، وإننى ألمس بين ثنايا رسالتك إيمانك بالقضاء والقدر وبأن الإنسان لا يأخذ من الدنيا إلا ما قسمه الله له، وإذا كنت تؤمن بذلك حقا فما الذى يدعوك إلى الشعور بهذا الاحساس المرير. أرجوك أن تنفض عنك غبار الأحزان, وأن تنظر إلى الدنيا بعين جديدة غير هذه العين اليأسة, وكلى ثقة فى أن تتبدل أحزانك على ما واجهته فى حياتك وعلى رحيل والدك إلى أفراح بما أعده الله للصابرين الذين يتقونه فى كل خطوة يخطونها، فاستبشر خيرا وأسأل الله لك السعادة ولوالدك المغفرة، والحمد لله رب العالمين.