التقى الرئيس ممثلى فئات المجتمع يوم الأربعاء قبل الماضى وعلى الرغم من تناوله كل أبعاد الموقف الراهن فى مصر إلا فإنه لا شك فى أن تداعيات اتفاقية ترسيم الحدود بيننا وبين السعودية كانت النقطة الأهم فى حديث سيادته، وفى هذا الحديث قال نقلاً عن عدد أهرام الخميس الماضى أنه " لم يتم تداول موضوع المراسلات بين البلدين حتى لا نؤذى الرأى العام فيهما " وأضاف " لو كنا أعلنا منذ 8 أشهر عن هذه القضية كان سيترتب على ذلك تداعيات على العلاقات المصرية - السعودية " ثم قال " إوعوا تكونوا فاكرين إن تعاملكم مع ملف سد النهضة كان فى مصلحتنا وانتم يامصريين لا تعرفون نتًيجة هذا التداول دون حدود أو ضوابط لأنكم تؤذون أنفسكم وبلدكم " وانتهى بمناشدة الجميع عدم التحدث مرة أخرى عن ملف الجزيرتين لا سيما وأن هناك برلماناً سيشكل لجاناً ويناقش الاتفاقية ليمررها أو لا يمررها ، ولقد أجمع كل من أُتيح لهم شرف مقابلة الرئيس على أنه يحسن الإصغاء للرأى الآخر ولا يضيق به ولذلك أستأذنه فى مناقشة هذه الآراء. ومن الحقيقى أن المفاوضات وبالذات فى المسائل الحساسة وذروتها تلك المتعلقة بالسيادة لا تجرى تفاصيلها تحت سمع وبصر الرأى العام لأن منطق المفاوضات فى حد ذاته يعنى أن مواقف أطرافها قابلة للتغير تشدداً ومرونة فيهلل الرأى العام لأى تشدد يبديه ممثلوه ويستاء لأى مرونة تطرأ على مواقفهم مما يربك المفاوضين ويعوق وصول المفاوضات إلى غايتها ، ولذلك لا تكون تفاصيل المفاوضات سرية فحسب وإنما يُعزل المفاوضون أحياناً عن محيطهم الخارجى عزلاً تاماً ، لكن سرية المفاوضات وعزل الرأى العام عن تفاصيلها شىء وعدم إحاطتهم علماً بالقصة أصلاً شىء آخر، وأعتقد أن ردود أفعال توقيع الاتفاقية لم يكن منبعها بالضرورة الاعتراض وإنما لأن الناس لم تكن تعلم أن هناك قضية أصلاً ، ولكى أوضح وجهة نظرى أسوق مبادرة السادات بزيارة القدس مثلاً ، وأعلم أن السياق مختلف جذرياً لأن السادات كان فى طريقه لزيارة عدو لدود بينما نتحدث فى حالتنا عن علاقة راسخة بين. شعبين ودولتين ولكن المثال يفيد كثيراً فى التوضيح ، فقد أعلن السادات مبادرته على الملأ فقبلها من قبل ورفضها من رفض ، ثم تتابعت خطوات التفاوض وكان الرأى العام يتفاعل معها تفاؤلاً وإحباطاً ، وعندما كانت الأمور تتأزم كان الرأى العام خير سند لممثليه كما حدث فى الأزمة الشهيرة التى نجمت عن تصريحات متعجرفة لبيجن رد عليها المرحوم محمد ابراهيم كامل وزير الخارجية آنذاك بما حفظ الكرامة المصرية فاحتفى به الشعب وأثنى عليه السادات ، وأكرر أن السياق مختلف جذرياً ولكنى قصدت توضيح أن متابعة الرأى العام لسير مفاوضات ما حتى ولو كانت تتناول قضايا حساسة ليست شراً مادامت تمت فى سياق من الإدراك السليم للموقف والمعلومات الصحيحة والمناخ الإعلامى الصحى بل إن الرأى العام الواعى يدعم المفاوضين باسمه. والواقع أن تداعيات الإعلان عن توقيع الاتفاقية وبالذات الرافضة لها كان مصدرها الأساسى أمران أولهما المفاجأة والثانى عدم العلم بالموضوع أصلاً من قِبَل قطاع واسع للغاية من الرأى العام ، ذلك أن من يعرفون بأساس الموضوع أصلاً هم فئة قليلة من دارسى التاريخ والجغرافيا والقانون والسياسة والعلوم العسكرية ، ولعل هذا يمثل أحد الأسباب التى تفسر غياب العلمية عن جانب كبير من النقاش الحاد الذى دار حول الموضوع وعدم استعداد عديد من الأطراف للاستماع إلى وجهات النظر المخالفة مع أنه فى هذا النوع من الموضوعات لا ينبغى أن يفترض أحد فى نفسه احتكار الحقيقة وحده ، وأضرب المثل بنفسى ففى المقالة السابقة ذكرت أننى أؤيد رأى المستشارة تهانى الجبالى بشأن طلب فتوى من المحكمة الدستورية العليا فى مسألة الاستفتاء غير أن أستاذ القانون الدستورى الجليل الدكتور صلاح فوزى أوضح لى أن المحكمة ليست جهة إفتاء وإنما يمكن بموجب قانون مجلس الدولة استطلاع رأى الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع علماً بأن رأيها ليس ملزماً وإن كانت له قيمته الأدبية الرفيعة ، وينقلنى هذا إلى اختلافى الثانى مع سيادة الرئيس فى مناشدته الجميع بعدم الحديث مرة أخرى عن ملف الجزيرتين ، والواقع أن الاستجابة لهذه المناشدة مستحيلة لسبب بسيط وهو أنه حتى لو استجاب العقلاء فإن المغرضين لن يتوقفوا عن التشكيك وبالتالى فإن معنى السكوت هو ترك الحبل على الغارب لكل من يريد الإساءة ومنع العقلاء من استكمال حججهم بل وحرمان مجلس النواب من الآراء الموضوعية كى يتخذ قراره بأعلى قدر من الصدقية ، أما مثال المفاوضات الخاصة بسد النهضة الذى ساقه الرئيس للتدليل على الضرر الذى يمكن أن يلحق بمصالحنا الوطنية فأنا أعلم بالفعل من أحد أعضاء وفد التفاوض المصرى كيف أن المعالجة الإعلامية الطائشة أضرت غير مرة ضرراً حقيقياً بالموقف المصرى غير أن هذا لا يجب أن يفهم على أنه يعنى عدم تدخل العقول الخبيرة بإبداء الرأى أو يصادر على حق الرأى العام فى إبداء القلق فى مسألة حيوية كهذه دون أن يعنى هذا أى نوع من عدم الثقة فيمن يدافعون عن المصالح المصرية والله أعلم . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد