ليس المقصود من هذا المقال الدفاع عن سياسات دولة معينة ، ولكن نقد الفكر العربى الذى أحيانا ما يتضمن مقترحات لا تتفق مع المنطق والواقع ، بل لا مع المصالح العربية. أقول هذا بعد أن فرغت من قراءة مقال لأحد الكتاب اللبنانيين قدم فيه اقتراحا فريدا من نوعه لحل المشكلة الكورية قال فيه بالنص عندى اقتراح وهو أن تتفق الولاياتالمتحدةوالصين على تدمير القواعد العسكرية لكوريا الشمالية من نووية او صاروخية أو غيرها، وقتل الرئيس ومساعديه ، ثم توحيد كوريا فى بلد واحد، الولاياتالمتحدةوالصين تستطيعان اقتسام المهمة وانجازها فى نصف يوم، وربما دفعت كوريا الجنوبية واليابان أكثر نفقات الهجوم ، فهو انقاذ لهما قبل أى بلد آخر. بنى الكاتب الموقر اقتراحه على أساس أن كوريا الشمالية بلد خطر جدا، وأنها تمتلك قدرات نووية وصاروخية وأنها تهدد الولاياتالمتحدةوكوريا الجنوبية وغيرها. ثم فقد قدم الكاتب حلا تدميريا نوويا بامتياز يشمل تدمير القدرات العسكرية لدولة عضو فى الأممالمتحدة ، واغتيال قادتها، وتسليمها الى دولة أخرى دفعت ثمن التدمير. الغريب أن الكاتب الموقر ختم مقاله بقوله، «لم اكن فى حياتى داعية حرب . لكن أعتقد أن النظام فى كوريا الشمالية خطر على المنطقة المحيطة به وعلى العالم كله» كما أضاف أنه لايعرف عن كوريا الشمالية الا ما يقرؤه من المصادر الغربية ولكنه يصدقه. ربما لو كلف الكاتب نفسه قدرا من الجهد لكى يطلع عن كثب على تاريخ العلاقات العربية الكورية الشمالية، و المشكلة الكورية، و آليات ميزان الرعب فى العلاقات الدولية، وسجل العلاقات الكورية الشمالية الصينية، لما قدم مثل هذا الاقتراح الذى يصل الى حد الفانتازيا الفكرية المرعبة. فربما لا يعرف أنه فى أثناء حرب الاستنزاف فى عامى 1968، 1969 قام الطياريون الكوريون الشماليون بمساعدة مصر على حماية أجوائها التى كانت مفتوحة أمام سلاح الجو الاسرائيلى ودخلوا فى معارك جوية مع الطيارين الاسرائيليين أسفرت عن ضحايا من الجانبين، كما ساعدت فى بناء مظلة جوية لحماية بناء قواعد الصواريخ على ضفة القناة الغربية. وربما لو كلف الكاتب نفسه قدرا من الجهد لعرف أن المشكلة الكورية كانت قد دخلت مرحلة الحل السياسى سنة 1994 وأنه بفضل جهود جورج بوش الابن تم اجهاض هذا الحل من طرف واحد، وأن مفاوضات أجريت بعد ذلك لإعادة الحل السياسى تضمنت تسليم كوريا الشمالية آلاف الوثائق عن برنامجها النووى الذى أوقفته. كل ذلك لم يكن كافيا لجورج بوش. فالقضية بالنسبة له ليست هى البرنامج النووى الكورى الشمالى وانما هى النظام السياسى فى تلك الدولة، حيث أنه فى تقديره نظام يجب تغييره مهما تكن النتائج. وعندما صنف بوش كوريا الشمالية ضمن محور الشر سنة 2002 ورأت ما حدث فى غزو للعراق سنة 2003 توصلت الى قناعة بأنه لا بديل أمامها سوى سلاح الردع النووى، وميزان الرعب. فهذا الميزان حقق السلام السوفيتى الأمريكى فى حقبة الحرب الباردة، وهو وحده الكفيل بألا يتكرر فى أراضيها ماحدث للعراق. من المؤكد أن هناك مشكلة أمنية فى شبه الجزيرة الكورية تفاقمت منذ الغاء الرئيس الأمريكى بوش الابن من طرف واحد للاتفاق النووى الرباعى الموقع سنة 1994 بخصوص وقف كوريا الشمالية برنامجها النووى. كانت العلاقات بين الكوريتين قد تحسنت بعد هذا الاتفاق وزار الرئيس الكورى الجنويى كيم داى جونج كوريا الشمالية فى اطار سياسته التى عرفت فى ذلك الوقت باسم الشمس المشرقة. وجاء الرئيس بوش ليوقف هذا التقارب بل ليوقف اشراق الشمس من أساسه، مما أسفر عن الغاء زيارة الرئيس الكورى الشمالى فى ذلك الوقت كيم جونج ايل لكوريا الجنوبية. ومع ادراج بوش الابن لكوريا الشمالية ضمن ما سماه محور الشر ثم غزوه للعراق سنة 2003 ادركت كوريا الشمالية أنها لن تنجو من ذات المصير الا اذا امتلكت قوة ردعية نووية. ومن ثم أعلنت امتلاكها السلاح النووى بعد انسحابها رسميا من معاهدة منع الانتشار النووى. حققت كوريا الشمالية الردع المطلوب ولكنها شاركت فى المحادثات السداسية حول مستقبل الأمن فى شبه الجزيرة الكورية، ولكن مع تصور الولاياتالمتحدة أن هدف تلك المحادثات هو فقط تدمير البرنامج النووى الكورى الشمالى، انهارت المحادثات. كذلك فالحل العسكرى التدميرى الذى اقترحه الكاتب لا ينهض على دراية بآليات ميزان الرعب. فكوريا الشمالية تمتلك السلاح النووى وآليات نقله الى أرض الخصم، كما أنها قادرة على توزيع مناطق تخزينه بحيث لا يمكن تدميره بضربة أولى. ومن ثم، فانه فى حالة توجيه مثل تلك الضربة ستظل تمتلك أسلحة نووية تستطيع من خلالها توجيه ضربة ثانية مضادة الى الخصم تلحق به أضرارا ربما فاقت ما لحق بها من أضرار. ميزان الرعب حمى كوريا الشمالية من أن تلقى مصير العراق وليبيا. وليس ثمة دولة بما فيها الولاياتالمتحدة تستطيع أن تتجاهل عواقب تحدى ميزان الرعب لأن نتائج هذا التحدى ستكون كارثية. والأمر ذاته ينطبق على كوريا الشمالية، فهى تعلم عواقب تحدى ميزان الرعب . ومن ثم، فإن امتلاك كوريا الشمالية لسلاح الردع هو ما منع نشوب الحرب فى شبه الجزيرة الكورية، وليس العكس. لام الكاتب كوريا الشمالية لأنها تهدد الولاياتالمتحدةوكوريا الجنوبية وغيرهما. ولكن هذه التهديدات روتينية تحدث سنويا مع إجراء الدولتين مناورات عسكرية بحرية قرب أراضى كوريا الشمالية، وتخشى أن تتحول الى غزو شامل لها ، كما أن التهديدات الكورية الشمالية مقصود بها ردع الخصم، خاصة أنها عرضت على الولاياتالمتحدة عقد معاهدة سلام ولكنها رفضت. كان من الأكرم للكاتب أن يدعو الى حل المشكلات الكورية من خلال استئناف المحادثات السداسية بحيث تنتهى باتفاق سلام يحقق الأمن للجميع فى شبه الجزيرة الكورية بأسرها ، وهو الحل الذى دعت اليه الصين مرارا مما يدعوننى الى القول انه من المؤكد أن قادة كوريا الجنوبيةوالصين قد ابتسموا عندما سمعوا عن التكليف الذى قدمه لهم أحد الكتاب العرب. فالكوريون أمة واحدة لن يقبل قسم منها تدمير القسم الآخر، كما أن الصين تدعو الى حل تفاوضى يحقق الأمن فى شبه الجزيرة الكورية. واذا كنا نقول ان المفاوضات هى الطريق الى حل القضية الفلسطينية، فهل يجوز أن نستأسد فى شبه الجزيرة الكورية وندعو الى الحل الجراحى النووى؟ والا يخلق ذلك سوابق خطيرة بالنسبة لسعى القوى الغربية لمنع احتمال امتلاك أى دولة عربية للخبرة النووية حتى لو كانت مدنية؟ وألا يشرعن ذلك قيام إسرائيل بتدمير القدرات النووية العربية قبل أن تكتمل كما فعلت مع العراق وسوريا؟ لمزيد من مقالات د. محمد السيد سليم