التعريب بشكل عام يعتبر من الأهداف القومية التى انعقد عليها الاجماع العربي. ولم يحظ موضوع أكاديمى بما يحظى به موضوع التعريب من عقد مؤتمرات وندوات واتخاذ قرارات خاصة فيما يتعلق بتعريب التعليم العالى الذى يعتبر حجر الزاوية فى صلاح أى مجتمع. وقد برزت قضية تعريب التعليم فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر عندما تعرضت مصر لهجمة استعمارية استهدفت طمس الهوية المصرية وذلك بإحلال لغته الإنجليزية محل اللغة العربية، فقد كانت لغة التعليم فى مصر فى ذلك الوقت هى اللغة العربية فى جميع مراحله ابتدائى ثانوى عالى فقد استمر التعليم الطبى بقصر العينى سبعين عاماً عربياً منذ إنشاء كلية الطب فى 1827م و حتى 1897م حين صدر قرار كرومر بتحويل التعليم فى مصر إنجليزيا لغة ومنهاجا، وقد ظهر مدى انزعاج المصريين من تحول التعليم الثانوى إلى الإنجليزية واعتبروا ذلك هدماً للتعليم, لعلمهم أن المرحلة الثانوية هى المرحلة التى تشكل فكر ووجدان الشاب المصرى وإيمانهم أن التعليم باللغة القومية هو أفضل وسيلة للحفاظ على الهوية والكرامة الوطنية للشباب المصري. ولم يهدأ المصريون حتى أعادوا التعليم عربياً حيث صدر من الجمعية التشريعية فى 1907م قراراً بتعريب التعليم الابتدائى والثانوى وأجبروا الحكومة على تنفيذ ذلك ولم يمض عام 1912م حتى صار التعليم الابتدائى والثانوى عربياً، ولكن التعليم العالى ترك إنجليزيا فى العديد من الكليات كالطب والهندسة والعلوم والصيدلة وعمل الزمن على ترسيخ ذلك خاصة بعد إنشاء الجامعة المصرية الحكومية فى 1925م، ومنذ ذلك الوقت برزت أهمية وضرورة تعريب التعليم العالي، وقد ظهرت عدة محاولات فردية من بعض الرواد من أساتذة الجامعات المصرية للتدريس لطلابهم بعض المقررات باللغة العربية، ولكنها كانت محاولات فردية تحمل مسئوليتها هؤلاء الرواد لإيمانهم أن التعليم باللغة القومية يمثل تصوراً أفضل للذات وسهولة أكثر فى التعبيروالتعلم, وقد أجمع كل اللغويين أن اللغة القومية تكمن فيها أفكار الأمة وتقاليدها وتاريخها ودينها وأسس حياتها وتلى ذلك مشروع الألف كتاب حيث ترجم بعض المراجع العلمية ولكن المشروع لم يكتمل. ورغم تحمس بعض الرواد للتعريب فقد وجد فى النصف الأول من القرن العشرين بعض المثقفين المصريين الذين تعتبرهم مرجعًا فى الأدب والفكر العربى قد أصابهم فيروس التغريب وشنوا حملات عدائية على اللغة العربية وإدعوا أن اللغة العربية لغة بداوة تفتقر إلى التجريد ولا تستطيع حمل المصطلحات الحضارية وأن العربية لا عهد لها بالمخترعات والمكتشفات الحديثة. فهل حقًا اللغة العربية قاصرة على مواكبة التقدم العلمى والتقنى بوضع المصطلحات وتوليدها اللازمة لذلك؟ وخير رد على هذا التساؤل هو النظر إلى شجرة الحضارة وهل كان للغة العربية دور فيها؟ فسوف نجد أن الدور اللغوى الرئيسى فى استمرارية شجرة الحضارة واستدامتها كان للغة العربية لغة القرآن فحركة التعريب الأولى فى العصر الأموى والعصر العباسى أحيت كل التراث الحضارى العالمى بمختلف لغاته، وقدمته للعالم باللغة العربية وبمصطلحات عربية لا يزال بعضها يستعمل حتى الآن، وخير دليل على ذلك أن الطب ظل يدرس فى جامعة باريس لسنوات طويلة باللغة العربية وعلم الجبر ما زال بمسماه العربي. ويعد موجة الظلام التى أحدثها الاستعمار التركى لمصر ولكل الوطن العربي، جاءت بعد ذلك حركة التعريب الثانية التى أوجدها محمد على وكانت اللغة العربية أداة التعليم فى المدارس العليا التى أنشاها فى القرن التاسع عشر قرن النظريات والاختراعات العلمية التى نعيش عليها حتى الآن ولم يقل أحد ان العربية كانت قاصرة على مواكبة العلوم الحديثة. وهنا يجب أن نوضح أننا عندما نتحدث عن تعريب التعليم العالى لا نقصد أن يصدر قرار فورى بإحلال اللغة العربية محل اللغة الإنجليزية. لأن التعريب فى معناه اللغوى يقصد به نقل المعارف من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وليس مجرد التدريس باللغة العربية، ولذلك لكى تنجح عملية تعريب التعليم العالى يجب أن توجد حركة ترجمة علمية شاملة فتثرى المكتبة العربية بكل ما يحتاجه الطالب والأستاذ الجامعي، ثم نبدأ بفرض التدريس باللغة العربية. ويمكن أن تكلف بحركة الترجمة الهيئة القومية للترجمة بالتعاون مع المجلس الأعلى للجامعات بكل قطاعاته العلمية المعنية بذلك، وفى هذا المجال يجب أن نشير إلى أهمية رفع مستوى تدريس اللغة الإنجليزية فى التعليم قبل الجامعى والجامعى أيضًا، فكلنا نعلم أن أكثر من 90% من الإصدارات فى العلوم الأساسية تصدر باللغة الإنجليزية. وإننا إذا فعلنا ذلك بجعل اللغة العربية لغة تدريس فى معاهدنا فإننا بذلك نصلح من التعليم الجامعى خاصة فى الكليات التى تعتمد على الإنجليزية كلغة تدريس. فقد أجريت عدة دراسات تناولت التأثير السلبى للتدريس باللغة الأجنبية على الطالب والمدرس والعملية التعليمية بشكل عام وقد أثبتت هذه الدراسات أن التدريس بغير اللغة القومية يضعف القوة التحصيلية عند الطالب ويضطرهم للحفظ عن ظهر قلب للمادة العلمية لضعفهم فى اللغة الأجنبية واعتمادهم على مذكرات الأساتذة وليس على المراجع العلمية بالمكتبات مما يساعد على انتشار ظاهرة التلقين كأسلوب للتعليم فى جامعاتنا وهو أسوأ أنواع التعليم الذى أدى إلى ضعف ملكة التفكير والإبداع عند خريجى جامعاتنا وهو ما نشير إليه بضعف مستوى خريجى جامعاتنا ولا سبيل إلى إصلاح ذلك إلا بتعريب التعليم فى تلك الكليات من خلال إيجاد حركة ترجمة ثالثة، وهناك سبب آخر يجعل من تعريب الكليات العملية ضرورة هو حاجة الدولة والمجتمع لإيجاد تكنولوجيا مصرية بتعليم الطالب المصرى علوم عصره بلغته القومية يتعلم و يعلم ويبحث بها أى ربط التعليم العالى والبحث العلمى بالمجتمع بكل طبقاته. وهنا يجب أن ندرك أن كل أمم العالم المتقدم كروسيا والصين وألمانيا واليابان يلتزمون بتدريس العلوم فى معاهدهم بلغاتهم القومية لابنائهم حفاظاً على هويتهم وكرامتهم الوطنية، وتواكب مع ذلك وجود مراكز للترجمة فى هذه البلاد يخصص لها أموالا طائلة تتناسب وجلال المهمة التى تقوم بها وهى نقل كل المعارف من اللغات التى تصدر بها إلى اللغة القومية لتلك البلاد، ولم يتوقف الأمر على تلك الدول ذات الحضارة، فنجد إسرائيل تصر على إحياء لغتها العبرية التى كانت لوقت قريب لغة ميتة لتجعلها لغة التعليم والبحث العلمى فى معاهدها ومراكز البحوث بها. أليس ذلك برد كاف على الذين يعارضون أو حتى يعوقون التعريب فى معاهدنا العلمية، الذى نرى أنه أصبح ضرورة حفاظاً على هوية أبنائنا وكرامتهم. لمزيد من مقالات د. أحمد دويدار بسيونى