من منا لم يسمع هذا المثل الشعبى القديم (إن فاتك الميرى تمرغ فى ترابه)، فى مدح الوظيفة الحكومية وتفضيلها على أى وظيفة فى القطاع الخاص؟ مزايا الوظيفة الحكومية معروفة: فالذى يحصل عليها لا يفقدها إلا لسبب قوى وبإجراءات معقدة، وصاحبها يضمن بعد أن تنتهى مدة خدمته أو يحصل على معاش يحميه من المذلة فى شيخوخته، وإجازات الموظف الحكومى كثيرة، وتحترم احتياجاته الصحية والعائلية، وساعات العمل فى الحكومة محدودة ولا تمتد الى ما بعد ترك مكان العمل، والترقية الى وظيفة أعلى لا تحتاج فى معظم الأحيان الى أكثر من مرور الوقت، كما أن المرتب الحكومى ظل محترما ويساير ارتفاع تكاليف المعيشة حتى وقت قريب. لا عجب إذن أن اعتقد المصريون حتى وقت قريب، أنه ليس هناك أفضل من الوظيفة الحكومية (أى الميرى)، فحرص خريجو الجامعات على الحصول عليها بمجرد تخرجهم، وفضلوها على العمل فى أى شركة خاصة، أو القيام بنشاط خاص، وحرصت الأسر المصرية على تزويج بناتها بموظف حكومى لا يهدده خطر البطالة وسوء الحال. كنت فى الخامسة من عمرى (وكان ذلك منذ أكثر من 75 عاما)، عندما أرسلنى أبواى الى مدرسة روضة الأطفال بمصر الجديدة، مازلت أذكر مبناها الجميل فى شارع هاديء وحديقتها الواسعة، ولكنى استغربت بشدة عندما تذكرت أيضا أن روضة الأطفال هذه لم تكن إلا مدرسة حكومية، إذ لم يعد مثل هذا موجودا الآن فى مصر، إلا نادرا جدا، ولعله أصبح أيضا شيئا نادرا فى العالم كله، مدارس الأطفال الصغار كلها تقريبا أصبحت مدارس خاصة، ويقام معظمها بهدف التربح. مدرستى التالية كانت أيضا مدرسة حكومية، ثم المدرسة التالية لها ثم التالية، حتى بلغت السادسة عشرة من عمرى فدخلت جامعة القاهرة وهى حكومية أيضا، وهكذا كانت وظيفتى الأولى بعد التخرج، حكومية أيضا، ثم بعثتى للدراسة فى الخارج، على نفقة الحكومة، فلما عدت للتدريس فى مصر أصبحت وظيفتى أيضا فى جامعة حكومية هى عين شمس. ولكن الأمر لم يكن مقصورا على التعليم والوظائف، كانت «الصحة» يرمز لها بقصر العينى (ولم يكن هناك ما يسمى المستشفيات الاستثمارية)، وكانت المواصلات فى الأساس «مواصلات عامة»، لا تقدر على منافستها السيارة الخاصة، إلا اذا كان صاحبها من علية القوم، أذكر أيضا أن الماء الذى كنا نشربه كان، ويا للعجب، يأتى من حنفيات فى المنازل بغرض ارواء العطش، وليس فى زجاجات معبأة تحمل أسماء شركات خاصة تستهدف الربح، حتى الماء أصبح هدفه الربح! ما الذى حدث منذ ما يقرب من خمسين عاما ليجعل استمرار هذا الوضع مستحيلا؟ بل وليس فى مصر وحدها، لقد حدث هذا التحول فى دولة بعد أخري، فى الغرب والشرق، وفى الشمال والجنوب.
بدأت مقدمات صغيرة فى مصر فى أعقاب حرب 1976، إذ بدأت الدولة المصرية تترنح فى أعقاب تلك الحرب، بدأت الحكومة تشعر بأنها لم تعد قادرة على حمل الأعباء التى كانت تحملها حتى ذلك الوقت، خاصة بعد فقد بترول سيناء، وإغلاق قناة السويس، مع الحاجة الى إعادة تسليح الجيش وتهجير سكان مدن القناة، بدأت الحكومة تتخلى عن بعض مسئولياتها منذ ذلك الحين، بما فى ذلك مسئوليتها عن التعليم، كانت الحكومة قد حاولت التصدى لظاهرة الأعداد الكبيرة فى الجامعات، قبيل قيام حرب 1967، فبدأت تضع حدا لتزايد هذه الأعداد لتوجيه المزيد من الطلبة الى التعليم الفني، ولكن هذه الجهود لم تستمر طويلا، إذ تضاءلت قدراتها وطموحاتها فى الإصلاح، وعادت أعداد الطلبة المقبولين فى الجامعات الى التزايد من جديد، وبدأ التدهور فى التعليم الجامعى مثلما حدث فى المدارس أيضا، أذكر كيف تحول الكتاب الجامعى من مصدر للفخر لأستاذ الجامعة الى مصدر للدخل، كما انتقلت مسئولية التعليم فى المدارس شيئا فشيئا، من الحكومة الى مدرسين «خصوصيين». ولكن الضربة القاصمة جاءت فى مصر، والعالم كله، ببداية التضخم الجامح فى منتصف السبعينيات، مما يروى عن الاقتصادى الانجليزى الشهير مينارد كينز قوله إن التضخم قادر على تدمير أعظم الحضارات، وأظن أن ما حدث فى العالم ابتداء من سبعينيات القرن العشرين يمكن أن يتخذ شاهدا على شيء شبيه بذلك، لقد اقترن هذا التضخم ببداية انسحاب منظم من جانب الدولة وكل ما هو عام، لمصلحة الشركات وكل ما هو خاص، حتى صرحت رئيسة الوزراء البريطانية، مارجريت ثاتشر، بجرأة مدهشة فى الثمانينيات بأنه «ليس هناك مجتمع، هناك أفراد». فكيف حدث هذا بالضبط؟ لقد اقترنت بداية ظاهرة التضخم الجامح ببزوغ ظاهرة أخرى لم ينقطع الحديث عنها منذ ذلك الوقت، وهى نمو الشركات العملاقة التى سميت وقتها الشركات المتعددة الجنسيات، وزيادة سطوتها حتى فاقت سلطة الكثير من الدول، اقترن هذا وذاك، فى ميدان الفكر الاقتصادي، بصعود نجم المدرسة المسماة «المدرسة النقدية»، وزعيمها ميلتون فريدمان، وكانت السياسات الاقتصادية التى تنصح بها تصب دائما فى مصلحة الشركات العملاقة، واقترن صعودها بأفول نجم المدرسة الكينزية التى كانت تقدم الحجج لزيادة تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادي. كانت السبعينيات هى أيضا العقد الذى وجهت فيه ضربات متتالية لنقابات العمال، التى اعتبرتها المدرسة الاقتصادية الجديدة هى المسئولة عن استمرار الارتفاع فى معدلات التضخم، كما كانت السبعينيات هى العقد الذى شهد نمو الدعوة الى الخصخصة (Privatization) وتوجيه مختلف أنواع النقد لتدخل الدولة فى الاقتصاد، وكأنه هو المسئول الأول عن متاعب الناس الاقتصادية. منذ ذلك الوقت، أى طوال الأربعين عاما الماضية، شهدنا التراجع المستمر من جانب الدولة، فى الدول الغنية والفقيرة على السواء، عن التدخل فى الاقتصاد، وتحول الملكية العامة فى مشروع بعد آخر الى ملكية خاصة، ونشاط عام بعد آخر الى نشاط خاص، فلا عجب أن بدأ المثل الشعبى الشهير (إن فاتك الميرى..) يفقد مصداقيته فى مصر، كما فقد (الميرى) الكثير من مكانته فى خارج مصر أيضا. لمزيد من مقالات د. جلال أمين