يبدو ان شعار «ان فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه» والذى ظهر فى ستينيات القرن الماضى مازال هو الشعار الاساسى فى سوق العمل المصرى حتى الان، وذلك على الرغم من الزيادة الكبيرة فى الدور الاقتصادى للقطاع الخاص على مدى العقود الماضية. اذ انه وعلى الرغم من ارتفاع معدلات البطالة والتى وصلت الى فى نهاية ديسمبر 2014، وتزايدها بشدة بين الشباب، الا ان هناك شكاوى عديدة ومتنوعة من جانب بعض أصحاب الاعمال من عدم وجود العمالة التى يبحثون عنها للعمل داخل مصانعهم. وحينما أعلن اتحاد الصناعات المصرية عن توافر المئات من فرص العمل لدى العديد من المنشآت فى المدن الصناعية الجديدة خاصة العاشر من رمضان واكتوبر، الا ان الاقبال عليها كان محدودا للغاية، ولم يتقدم لها الا نسبة ضئيلة للغاية لاتتجاوز 2% من الاعداد المطلوبة، والاهم من ذلك ان بعض من التحقوا بهذه الاعمال لم يستمروا أكثر من شهرين اوثلاثة وتركوا العمل لينضموا لطابور البطالة من جديد رغم كافة الاغراءات التى قدمتها هذه المنشآت. وعلى النقيض من ذلك حينما أعلنت وزارة التربية والتعليم عن مسابقة لتعيين ثلاثين ألف مدرس للعمل بالوزارة تقدم لها نحو مليونى فرد طامعين فى الحصول على وظيفة حكومية حتى لو كانت بمرتبات ضئيلة. وهناك العشرات من الأمثلة الأخرى التى حدث فيها نفس الموقف. وهذا وان دل على شيء فانه يدل على ان المجتمع مازال يؤمن تماما بأهمية العمل داخل دولاب الحكومة وليس لدى القطاعات الأخرى باعتباره هو منطقة التوظف الرئيسية او الاصلية فى المجتمع، ولذلك أصبح القطاع الحكومى مكتظا بصورة كبيرة، وهو ما ادى بدوره الى التوسع فى الهياكل التنظيمية واستحداث العديد من التقسيمات والمستويات الوظيفية دون الحاجة إليها الأمر الذى أدى الى تضخمه ومركزيته الشديدة وتعدد الإجراءات، وبالتالى تدهور جودة الخدمة العامة. ولهذا حينما قامت الحكومة المصرية بتلبية طلبات الحاصلين على ماجستير ودكتوراه للعمل فى الحكومة، لم تجد هناك بدا من وضعهم فى أماكن لاتتناسب باى حال من الأحوال مع كفاءتهم ومؤهلاتهم العلمية، وعلى سبيل المثال تم تعيين أحد الحاصلين على الماجستير فى العلوم السياسية بتقدير امتياز، فى وظيفة بشئون الطلبة بإحدى الجامعات، وهناك اخر حاصل على الدكتوراه فى القانون الدولى تم تعيينه فى ديوان عام احدى المحافظات، والامثلة عديدة وكثيرة. وكلها تشير الى حقيقة واحدة وهى ان نمط التشغيل بالقطاع الحكومى يؤدى الى المزيد من الهدر فى الكفاءات. وهكذا سارت حركة التشغيل فى المجتمع على عكس الاتجاه المستهدف والذى كان هادفاً إلى أن يستوعب القطاع الخاص المنظم المزيد من قوة العمل وليس العكس، فعلى الرغم من إبطاء التعيينات فى الوظائف الحكومية وتشجيع الإجازات غير مدفوعة الأجر، إلا أن الزيادة فى معدلات البطالة وعدم قدرة القطاع الخاص على امتصاصها أدى إلى تدخل الدولة من جديد إلى سوق العمل عن طريق تعيين المزيد فى دولاب العمل الحكومي. فارتفع عدد الموظفين الحكوميين من 3948 ألفا عام 1990 / 1991 إلى 6.5مليون عام 2014 / 2015. وبمعنى آخر فقد زاد دور الحكومة كمصدر رئيسى للتشغيل إذ أن ما يزيد على 42% من الوظائف التى استحدثت خلال الفترة الأخيرة كانت فى الحكومة وكانت وظائف المعملين هى أسرع المجموعات الوظيفية نمواً حيث اسهمت بأكثر من نصف النمو فى العمالة الحكومية.خاصة وان معدل الاستيعاب التراكمى للعمالة فى قطاع الاعمال خلال الفترة ظلا سالبا وفى المقابل فان القطاع الخاص المنظم لم يستطع تعويض مافقد من عمالة فى القطاع العام بالإضافة الى الزيادات السنوية فى قوة العمل. هذا مع ملاحظة ان القدرة الاستيعابية للقطاع الخاص قد تركزت اساسا فى القطاعات السلعية وتحديدا فى القطاع الزراعى والانشطة الريفية وعلى الجانب الآخر نلحظ أن معظم العمالة التى لحقت بالقطاع الخاص قد انضمت إلى القطاع غير المنظم أو غير الرسمي. والذى يضم شرائح عريضة من المجتمع المصرى مثل العاملين فى الورش الصغيرة أو الأعمال اليدوية والحرفية أو الذين ليس لهم مكان عمل إلا بالشارع كالباعة الجائلين وعمال التراحيل. وأصبح هذا القطاع يستوعب نحو 47% من العمالة مقابل نحو 26% فقط فى القطاع الخاص المنظم. وهنا يصبح التساؤل عن أسباب عدم نجاح القطاع الخاص فى سحب المزيد من البطالة المتراكمة على الرغم من السياسات الاقتصادية المتبعة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى والهادفة الى تشجيعه ومنحه مزايا عديدة؟ ويمكننا إرجاع السبب فى ذلك إلى مجموعتين من الأسباب بعضها يتعلق بالقطاع الخاص نفسه والبعض الاخر يتعلق بالسياسات الحكومية المطبقة. ففيما يتعلق بالقطاع الخاص فان الأسباب الجوهرية لعزوف الافراد عن العمل لديه ترجع الى ظروف العمل وعدم الشعور بالأمان المستقبلي، حيث ان العديد من المنشآت لا توفر للعامل البيئة المناسبة والتى تضمن له الاستقرار والتحوط نحو المستقبل، وهو ما تطلق عليه منظمة العمل الدولية «العمل إللائق» وهنا يشير بحث القوى العاملة عن الربع الرابع من العام 2014 (أكتوبر ديسمبر 2014) الى ان نسبة المشتغلين بأجر وبعقد قانونى لدى القطاع الخاص المنظم تصل الى 43.3% مقابل 99.9% لدى الحكومة والقطاع العام، كما تشير أيضا الى ان نسبة المشتركين فى التأمينات الاجتماعية لدى العاملين باجر فى القطاع الخاص المنظم تصل الى 41.6% مقارنة بنحو 98% لدى القطاع الحكومى والعام، وتصل نسبة المشتركين فى التامين الصحى لدى هذا القطاع الى 24.6% مقابل 97% لدى الحكومة والقطاع العام. وكلها مؤشرات تدل دلالة واضحة على ان بيئة الاعمال لدى القطاع الخاص المنظم مازالت دون المأمول ولاتوفر الحد الأدنى من متطلبات العمل اللائق، فما بالنا بالقطاع الخاص غير المنظم!! ولاينبغى ان يفهم من ذلك اننا ضد القطاع الخاص ودوره فى المجتمع بل على العكس من ذلك تماما ولكننا نحاول الحديث عن مدى توافر شروط العمل اللائق التى تجعل هذا القطاع أكثر جاذبية مقارنة بالقطاع الحكومي. وعلى الجانب الاخر فقد لعبت السياسات الحكومية المطبقة فى هذه الفترة دورا أساسيا فى تغذية هذه العملية فعلى سبيل المثال مازالت سياسات الأجور لدى القطاع الحكومى والعام افضل بكثير من السائدة لدى القطاع الخاص، وخير دليل على ذلك قيام الحكومة بتطبيق الحد الأدنى للأجور والذى وصل الى 1200 جنيه شهريا بينما مازال القطاع الخاص لايطبق هذه السياسة، وهنا تشير البيانات إلى أن المتوسط الشهرى للأجور النقدية لدى القطاع العام والحكومة أعلى من مثيله فى القطاع الخاص. ناهيك عن المعاملة الضريبة للأجور والتى تجعلها اكثر انحيازا للعاملين بالحكومة مقارنة بالقطاع الخاص، لسبب بسيط للغاية يكمن فى العلاوات الخاصة التى يحصل عليها هؤلاء ولا يحصل عليها العاملون بالقطاع الخاص وهى معفاة بالكامل من الضرائب ومن ثم اصبح العبء الضريبى على العاملين باجر لدى القطاع الخاص اكبر بكثير من مثيله فى الحكومة. هذا فضلا عن ان القانون السابق، على قانون الخدمة المدنية الجديد، كان يتيح للموظف الحصول على إجازة ممتدة بمجرد تثبيته فى الوظيفة العامة مع حصوله على كافة المزايا والحقوق التى يتمتع بها زملاؤه فى العمل وحينما يعود من اجازته، طالت ام قصرت، فانه يرقى الى الدرجة الوظيفية التى حصل عليها زملائه، وهو ما اوجد أوضاعا غاية فى الغرابة وترك اثارا سلبية للغاية لدى القائمين بالعمل فعليا، وهو ما نجح القانون الجديد فى تلافيه تماما. ناهيك عن طبيعة العمل داخل الحكومة والقطاع العام والتى تساعد كثيرا على التسيب والتغيب، وكما نعلم جميعا هناك المئات من الحالات التى لا تذهب الى العمل الا للتوقيع فى كشوف الحضور ثم تنصرف لأداء مهام أخرى على ان تعود للتوقيع فى كشوف الانصراف. الخ من المظاهر التى لا تخفى على أحد. كل هذه الأمور وغيرها توضح لنا بما لا يدع مجالا للشك مدى صعوبة وتداعيات الاستمرار فى هذه السياسات، خاصة ان آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادى فحسب، بل تمتد بآثارها لتشمل كافة جوانب المجتمع سياسيا واجتماعيا وحضاريا. وأصبحت تحتاج الى معالجة جذرية تعالج السياسات الخاطئة المتبعة حاليا وتشجع القطاع الخاص على إيجاد بيئة العمل الجاذبة. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي