عملت لمدة قصيرة بمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، التى كان اسمها آنذاك مرادفا للجنون، وكانت هذه التجربة من أصعب ما واجهنى فى حياتى، كنت طبيبا شابا، قليل الخبرة، ورغم أننى كنت قد قررت الخروج بلا رجعة من هذه المهنة، إلا أن ارتباك العقل وهزائم الروح، التى كنت ألمحها فى نظرات المرضي، كانت تحرك قلبى وتجرحنى شخصيا، أجبرنى التعامل اليومى مع هذا الجانب من الانسانية على أن أقترب وأن أحاول الفهم بدرجة أكبر، تعرفت وقتها على ما كان فرويد يسميه الحيل النفسية، وتوقفت كثيرا أمام ما كتبه المحلل النفسى الكبير «لاكان» عن حالة فتاة مراهقة أشرف على علاجها، وتعرف من خلال تجربته معها على تدابير نفسية، تختلف عن الدفاعات التى اكتشفها فرويد، لأنها حيل واعية وارادية. كانت الفتاة مضطرة كى تذهب الى مدرستها، لأن تعبر حديقة معتمة ذات ممرات ضيقة، ولكى تتخلص الفتاة من خوفها ومن رهبة المكان، كانت تقول لنفسها: «إنه لا مبرر للخوف، فليس هناك شيء يمكن أن يهاجمني، فقد صرت الآن غير مرئية: أنا لم أعد أنا، لقد أصبحت أنا الحديقة نفسها، فانا الأشجار وأنا الزهور، أنا المقاعد والأحجار أيضا» وقبل أن تخرج من الحديقة كانت تقوم بجمع شتات نفسها وتعود الى ذاتها مرة أخرى، حتى تصل سالمة الى بيتها، اعتادت الفتاة اللعبة وأخلصت لها، الى أن جاء ذلك اليوم الذى اخترقت فيه الفتاة الحديقة، بلا خوف، ولكنها لم تنجح فى جمع أجزاء روحها قبل أن تخرج منها، كان المعالج العبقرى يحاول أن يعيد لتلك الفتاة الصغيرة وعيها بوجودها كذات مستقلة عن المكان. قصة تلك الفتاة، ولعبتها الخطرة، تلاحقنى هذه الأيام، ربما لأنها تتصل بشكل ما بحالنا الراهن فى مصر. أعتقد أن مخاوفنا وعجزنا عن اجتياز اللحظات الصعبة التى تلت ثورة 25 يناير كما حلمنا، قد دفعتنا بلا وعى منا وأحيانا بوعى كامل، لأن نتحايل على أنفسنا، بتلك الدفاعات النفسية الشهيرة: الانكار والاسقاط والازاحة والنسيان.. ويبدو أننا لم نكتف بذلك، فقد اتفقنا ضمنيا على أن نمارس معا نفس اللعبة الخطرة التى أودت بعقل فتاة لاكان، الفارق هنا هو أن أرواحنا لا تنفرط فى جنبات المكان، وإنما نقوم بتوزيعها طواعية على الأزمنة، نعم ، لقد خلقنا مساحات زمنية للهروب، أزمنة عذبة الملمس كالقطيفة. لدينا الآن أزمنة نسترخى داخلها وتعفينا من مواجهات قاسية.لدينا الماضى القريب الذى سميناه بالزمن الجميل، وغمرناه بحنين وزخارف مبالغ فيها، ونملك أيضا الماضى البعيد، حيث المجد الغابر، عندما كانت مصر بالفعل «أم الدنيا» وأمامنا فى الجهة المقابلة زمن آخر ننعس داخله ونحلم فيه بالعظمة القادمة، رغم أننا لا نعرف متى سننعم بها، ولكنهم قالوا لنا إنه مستقبل باهر، سنصبح خلاله من معلمى البشرية، وعلينا فقط أن نصبر فهو آت لا محالة. وكما كانت الفتاة لا تتحمل رؤية الحديقة، يبدو أننا أيضا نتفادى ممرات اللحظة الراهنة، ونتغافل عن تفاصيلها المنذرة، نتجنب معا غرس الأصابع فى الجروح الحقيقية. سيكون من الصعب علينا بلا جدال، أن نعترف بضياع الأحلام وقلة الحيلة بعد كلما قدمناه، وهناك شعور بالخجل والأسى يتسلل إلينا عند مشاهدة واقعنا كما هو مباشرة: ببؤسه وعشوائيته، بعد اندثار الخفة، والوسامة، وفى غياب اللطف واللياقة، وبتلك الأصوات المجانية الصاخبة. وبما يحتشد به من نظرات متربصة، تحرش وفوضى، ملابس متنافرة، وأصباغ رخيصة، وبيوت رثة، ومدن من بين أقذر مدن العالم. يبدو أن الغناء لجمال بلدنا لم يعد مقنعا كما كان. يشق علينا جميعا بالتأكيد قبول هذه المشاهد، وكم هو مؤلم أن نواصل النظر إليها، فهى لا تقودنا الى أشياء أخرى سوى اليأس العميق.. ولذا من العدل أن نستعين ببعض تلك الحيل النفسية لنواصل الحياة، وهو حل انسانى رحيم بلا جدال وقد جربناه كثيرا. ولكن هذا الهروب الجماعى بغض النظر عن كونه نكوصا الى الماضي، أو وهما يخص المستقبل، يظل هروبا، وهو حيلة أشد خطرا علينا مما نواجهه من تحديات حقيقية. أطباء النفس يقولون لنا أن العيش فى الوهم يكون أحيانا أجدى من مواجهة الحقيقة، ولكنهم واثقون بالمثل من إن إدمان التدابير الدفاعية والحيل النفسية يصعب الشفاء ، وربما يصبح هو الخطر نفسه، فتوليد القوة النفسية كى تستعيد الروح طاقتها مرة ثانية، ليس أمرا مضمونا دائما. وإذا كان الهدف الاستراتيجى للروح هو دمج طاقات وتفاصيل عالمنا الداخلى فى كل واحد، كى تدفع الجسد والعقل معا، لتوسيع تجربة الحياة، والدخول بقوة الى قلبها، فإن الطاقة اللازمة للاشتباك والتفاعل تحتاج الى قدر كبير من الشجاعة. وقد جسدنا أمام العالم كله أن هذا الانصهار وهذه الشجاعة لا تنقصنا، ولكن يبدو أن هناك أبعادا أخرى تنقصنا الآن بالفعل. أطباء النفس يقولون إننا نكوصيون، سرعان ما ننكفئ، لاننا لا نملك فضيلة الإصرار والمثابرة اللازمة لإحداث تغييرات حقيقية، فرغبتنا العميقة فى الرجوع الى طقوسنا اليومية، أهم لدينا من تغيير شكل حياتنا، ولكن التاريخ يقول لنا أيضا إنه ليست هناك هوية ثابتة أو خالصة، وأن الهوية لا تتشكل مرة واحدة وللأبد، وربما يتعين علينا أن نعيد اكتشاف أنفسنا مجددا، بعد أن عبرنا هذا الزمن الاستثنائى، وقد نبدأ رغم كل هذه الإخفاقات فى الخروج من سطوة الوهم والحيل الدفاعية، فالاهتمام الكبير الذى يوليه المصريون الآن للذاكرة، ملمح بالغ الأهمية، فالتذكر فعل إيجابي، وقد يكشف عن حقائق كثيرة تم طمسها، الذاكرة الفاعلة ربما تنقذنا من سطوة النوستالجيا والحنين لأزمنة ولت بحلوها ومرها، وتمنحنا القدرة على القياس حتى لا نواصل النعاس فى بساتين المستقبل العاطرة. لمزيد من مقالات عادل السيوى