عندما هبت عاصفة الثورة الإيرانية فى 1979، كان البعض يظن أن زلزال الثورة سوف يقود إلى أفول الإمبراطورية الفارسية وتحول الدولة الإيرانية إلى فاعل هامشى فى المنطقة، ولكن سرعان ما نجحت السلطة الجديدة بقيادة آية الله الخمينى فى إعادة الروح لمصادر القوة عبر خطاب أيديولوجى ثوري. وعبر 35 عاماً، نجحت القيادة الإيرانية - رغم خوضها حربا طويلة ومريرة مع العراق - فى تأسيس قوة جديدة فاعلة فى الشرق الأوسط، وتحويل طهران إلى مركز لقيادة أقلية طائفية فى المنطقة، وتجاوز نفوذها حدود التوازنات العسكرية التقليدية إلى إنشاء مجموعات مسلحة على غرار "حزب الله" فى لبنان، مروراً بنسج علاقات قوية مع روسيا، وانتهاء بمشروعها النووي. لقد أصبحت طهران رجلاً قوياً فى المنطقة يحمل "سيف المهدي"، ولكنه فى الوقت نفسه يبحث عن قوت يومه مع شروق شمس كل نهار، فالقوة العسكرية الهائلة التى تتضمن أكثر من 550 ألف جندى و1600 دبابة ورابع أكبر أسطول بحرى فى العالم و470 طائرة مقاتلة وأكثر من 500 صاروخ من طرز "شهاب 1 و2 و3" تخفى ثوباً مهلهلا اقتصاديا، حيث يكاد الاقتصاد الإيرانى لا يحقق نموا تقريباً، ونسب التضخم تفوق 10%، وهناك 18٪ من السكان تحت خط الفقر، ونسبة بطالة تزيد عن 14%. إن الوضع الاقتصادى المتردى لإيران كان دافعها الرئيسى لقبول الاتفاق النووى بهدف إنهاء العقوبات الغربية، فالبحث عن القوة الاقتصادية يمثل بالنسبة للقيادة الحالية فى طهران الهم الرئيسي، وهى تتطلع أن يفتح باب التطبيع الاقتصادى مع العالم الغربى أبوابا أخرى أوسع للاستثمارات الأجنبية والتبادل التجارى المغلقة مع الأسواق الأغنى فى العالم. إن وضع هدف تعضيد القوة الاقتصادية المتراجعة يتناقض مع عوامل أخرى للقوة الإيرانية، ولعل أهمها قوتها الأيديولوجية كقيادة سياسية للأقلية الشيعية فى المنطقة، وباعتبارها مصدراً ل"الثورة" ومدافعاً عن حدود المعسكرات المتحالفة والتابعة لها فى المنطقة، سواء فى لبنان "حزب الله"، أو فى سوريا بتدخلها المباشر دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد، أو فى اليمن بدعم الحوثيين، وفى العراق. فإيران الجديدة الباحثة عن الدولارات لشعب يدخل جيوبه سنويا أقل من ربع دخل جيرانه الخليجيين تصطدم بإنفاق غير محدود لتعزيز القوة العسكرية الذاتية، وكذلك دعم القوة العسكرية لحلفائها، مما يجبر خزينتها على تحمل نزيف مستمر لم تنجح قفزة البترول خلال السنوات الأخيرة فى الحد من تأثيره. إن الدور الثورى الذى قررت أن تلعبه إيران فى المنطقة منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضى منحها أذرعاً قوية فى عدد من دول المنطقة، فلا يمكن دخول رئيس لبنانى إلى قصر بعبدا دون موافقة وإقرار من أطياف مختلفة من بينها بكل تأكيد "حزب الله"، ولا يمكن إنهاء الحرب المريرة فى سوريا دون وجود ممثل عن طهران على مائدة المفاوضات، ووقف إطلاق النار فى اليمن مرهون بقبول القيادة الإيرانية للتهدئة وتوقفها عن دعم الميليشيات الحوثية، واستقرار الحكومة العراقية مرتبط كذلك بتوافقات فى غرف الحرس الثوري. ولكن فى المقابل، كل هذا حملها أعباء قد تفوق طاقتها، بل حد من فرص صياغة علاقاتها الدبلوماسية بمنطق "المنفعة". هذا الدور يفرض على سلطة آيات الله الدفاع عن كل ما يعتبره الشيعة فى المنطقة محاولة لاضطهادها أو النيل منها، فتتحول هذه الصراعات إلى صراعات طائفية لا سياسية، وتصبح إيران برغبتها أو بدون رغبتها حاضرة فى كافة أزمات المنطقة المتشابكة على نقط تماس طائفية بغيضة، فتصبح هى المنوط بها لعب دور رأس الحربة فى أزمات، مثل إعدام نمر باقر النمر فى السعودية تحت ضغط الرأى العام المحتشد على قاعدة دور "القيادة" الافتراضي، إلى جانب الحفاظ على علاقة مركز الأيديولوجية "الثورية" والأطراف من الحلفاء والتابعين. وفى النهاية، فإن حدود القوة الإيرانية لا يتجاوز فى كثير من الأزمات حد التلويح ب"سيف المهدي" دون استخدامه، لأن قيادتها تدرك جيداً أنه - بعيداً عن الأذرع المسلحة عبر القومية - لا يمكنها تحمل اقتصاديا واجتماعيا حرباً تقليديةً جديدة. ولا شك فى أن محاولات فتح ذلك "الهويس" المسمى ب"حرب الجميع ضد الجميع" الطائفية فى المنطقة يفوق قدرات طهران، وليس كما يعتقد البعض بأنه هدف دائم لكل من يجلس على كرسى السلطة هناك.