ما من عام جديد يهل علينا حتي يطلق المتشددون ألسنتهم الحداد وفتاواهم المتطرفة والمثيرة للفتنة التي تحرم تهنئة النصاري بميلاد المسيح عليه السلام بدعوي تعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية. تناسي هؤلاء ان عيسي عليه السلام هو المبشر بخاتم الانبياء صلي الله عليه وسلم، وتجاهل هؤلاء أن إيمان المسلمين لا يكتمل إلا بالإيمان بسيدنا عيسي، وذلك مصداقا لقول الله تعالي: ( لا نفرق بين أحد من رسله) . وغفل هؤلاء عن حديث رسولنا صلي الله عليه وسلم الذي قال عن قبط مصر: استوصوا بأهل مصر خيرا فإن لهم نسبا وصهرا، وإذا كان من حمي وذاد عن مهاجري الحبشة هو النجاشي النصراني. وإذا كانت عالمية الإسلام تقتضي احتواء أهل الكتاب بالحسني، فهل يجوز لهؤلاء المتشددين أن ينشروا الفرقة والانقسام بين شركاء الوطن لاختلاف العقائد ، مخالفين بذلك سنن الله في خلقه ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.. ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). علماء الدين يؤكدون أن تهنئة غير المسلمين في عيدهم يعد من باب الإحسان لشركاء الوطن وتقوية لدعائم الوحدة الوطنية، كما أنه يمثل فر صة جيدة لنشر الحب والسلام علي الأرض وتأكيد الصلات الترابط والأخوة بين المصريين والشعوب جميعا. فتوي لدار الإفتاء وردا علي تلك الفتاوي المتشددة أجازت دار الإفتاء المصرية تهنئة غير المسلمين في عيدهم بألفاظ لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية، وقالت إن الوصل، والإهداء، والعيادة، والتهنئة لغير المسلم من باب الإحسان، وقد أمرنا الله عز وجل أن نقول الحسني لكل الناس دون تفريق ،قال تعالي: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة : 83)، وأمرنا الله بالإحسان دائمًا ،حيث تعالي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل : 90)، فكان صلي الله عليه وسلم يقبل الهدايا من غير المسلمين؛ حيث ثبت في صحيح السنة ما يفيد التواتر أن النبي صلي الله عليه وسلم قبل هدية غير المسلمين، ومن ذلك قبوله لهدية (المقوقس) عظيم (القبط). ويشير الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية رئيس جامعة الأزهر الأسبق إلي مدي أهمية استقبال العام الجديد بالبشر والترحاب وإحسان الظن بالله والعزيمة القوية التي يتآلف بها المجتمع في نسيج واحد مسلمين وأقباطا، وعلي كل الأصعدة حتي نكون علي قلب راجل واحد في مواجهة التحديات التي تواجه امتنا ومما لا شك فيه أن عالمنا المعاصر يشهد انفجارا معرفيا، حمل الخير والشر مما يستوجب علينا أن نتلبس بالخير ونعترض الشرور التي تعترض أمتنا التي يحاول فيها أعداؤنا أن يبثوا السموم خاصة سموم الفرقة بين المسلمين والأقباط، ونحن بحمد الله في مصر علي قلب رجل واحد، وكلنا نسيج واحد، لأن القرآن وصانا بذلك حيث قال تعالي: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). لا مكان لبث السموم وأضاف: ان القرآن الكريم أوصانا بأن الأقباط لهم أهمية في المودة. حيث قال تعالي: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَي ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أفبعد أن يقول القرآن (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا..إلي آخر الآيات) يحاول البعض وتقسيم المجتمع وبث سموم الفرقة والفتنة الطائفية التي خارت قوي مجتمعنا بسببها في أيام حالكة والحمد لله نحن نعيش عصرا منفتحا مستنيرا نتمسك فيه بكتاب ربنا وسنة نبينا صلي الله عليه وسلم، الذي كان أولي خطواته عقب الهجرة وحين تأسيس المجتمع الجديد والدولة الجديدة في المدينة أنه بني المسجد الذي يكون همزة الوصل وأبرم أول وثيقة إسلامية عرفتها البشرية لحقوق الإنسان بين المسلمين وغيرهم ليكونوا يدا واحدة واشترط عليهم ووصي المسلمين وتبرأ ممن يكون خصما لأهل الكتاب، ليطلع العالم كله علي عظمة هذا الدين الإسلامي وسماحته ورقيه وجمعه كل الناس تحت راية الإسلام، وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الناس (يدخلون في دين الله أفواجا)، فاستقبال عام جديد بروح مؤمنة وبوصايا (ديننا الحنيف عالمي الرسالة) سمح الدعوة قوي الحجة واجب لنرفع راية الواحدة الوطنية لينطوي تحتها جميع فئات المجتمع فلا مكان للفتنة الطائفية بيننا ولا مكانة لمن يحاولون إيجاد الدسائس وإلقاء الأحجار في المياه الراكدة. التهنئة واجبة. من جانبه قال الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق، إن تهنئة الإخوة المسيحيين بأعيادهم واجبة، وأن الإسلام حبب هذا ورعاه، ونعلم أن هناك كثيرا من الآيات التي تحثنا علي البر والقسط يعني العلاقة الحسنة الطيبة والود تقتضي فعلا التحابب والتعاون وأيضا رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم علمنا، كانت أول هجرة لأصحابه أمرهم أن يهاجروا إلي الحبشة، وكان النجاشي ملك الحبشي نصرانيا، وقال صلي الله عليه وسلم : (إلي الحبشة فإنها أرض صدق وإن بها ملك لا يظلم عنده أحد) فأكرم النجاشي وفادة المسلمين ورحب بهم ليبين النبي، صلي الله عليه وسلم أنه لا عنصرية في الإسلام، ولا تعصب، وأن الإسلام يسع الأديان جميعا، لذلك أقول لمن يقولوا لا تهنئوا النصاري سيروا علي هدي نبيكم واتبعوا سنته واهتدوا بهديه صلي الله عليه وسلم، وقد كان سمحا كريما مع كل الدنيا، وبعد هجرته كان العمل الثالث بعد انتقاله إلي المدينةالمنورة، ميثاق المدينة أو عهد المدينة أو صحيفة المدينة، التي أقامها النبي، صلي الله عليه وسلم بين المسلمين اليهود ومن علي شاكلتهم وكان النصاري والمجوس والمشركون في المدينة آنذاك، فأقام النبي عهدا بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، وأن نتبع ونلتزم وأن نحيي إخواننا كما يحيوننا وأن نودهم ونبرهم ونقسط إليهم، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالي وكما فعل النبي، صلي الله عليه وسلم، والإسلام الذي أباح للمسلم أن يتزوج مسيحية أو يهودية فهل إذا جاء عيدها وهي علي دينها، فلا يقول لها كل عام وأنت بخير؟! ألم يعلم هؤلاء أن النبي، صلي الله عليه وسلم، تزوج (مارية القبطية)، وأنه وصي بأهل مصر خيرا، فقال: (استوصوا بأهل مصر خيرا فإن لهم نسبا وصهرا)، وكان النسب جاء من هاجر أم إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام، وكانت مصرية، وإسماعيل الجد الأعلي للنبي، صلي الله عليه وسلم، والصهر جاء من (مارية القبطية). شركاء الوطن ويقول الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر فرع أسيوط: في بداية العام الميلاد الجديد يسرنا أن نقدم التهنئة لإخواننا المواطنين المسيحيين، وهم شركاؤنا في الوطن ونقدرهم ونعتز بهم، فمصر تقوم علي دعامتين هما المسلمون والمسيحيون، ونقول لبعض الناس الذين يصدرون الفتاوي بحرمة تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد، إن الاحتفال بعيد المسيح أمر غير منكر شرعا، لأننا نعترف بالمسيح كرسول من رسل الله عز وجل، وليس هناك مانع من أن يفرح المسلم بميلاد سيدنا عيسي كما يفرح بميلاد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، وليس هناك شبهة كما يقول بعض الناس من أنني حينما أهنئهم بأعيادهم أنني أعترف بعقيدتهم في المسيح عليه السلام، لأن القرآن الكريم يقول (لكم دينكم ولي دين) والذي نؤمن به نحن المسلمين بأن عيسي عليه السلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه. تقوية الوحدة الوطنية وفي سياق متصل، يري الدكتور عبدالفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الإهداء وقبول الهدية من غير المسلم جائز أيضًا، وهدية غير المسلم لا بأس بها ومستحبة لأنها من باب الإحسان، وأنه لا مانع شرعا من التهنئة بتلك المناسبات التي تقوي دعائم الوحدة الوطنية، وتؤكد عظمة الإسلام وسماحته تجاه الآخر والشريك في الوطن. وعلينا أن نتأمل اختيار القرآن للتعامل مع المسالمين من أهل الكتاب في كلمة (البر)، حينما قال الله عز وجل (أن تبروهم)، وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق علي الإنسان في الحياة بعد حق الله تعالي، وهو(بر الوالدين)، وأجازت لنا آيات أن نأكل من ذبائحهم، فقال تعالي: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ)، والتهنئة في هذا اليوم من باب الإحسان الذي أمرنا الله عز وجل به مع الناس جميعا دون تفريق، لقول الله عز وجل (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، وأيضا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، وأن الله عز وجل، لم ينهَنا عن بِر غير المسلمين، وأشكال البر عديدة، وأقلها كلمة طيبة، وذلك في قوله تعالي : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المقسطين)، وهذه المناسبات فرصة جيدة لنشر الحب والسلام علي الأرض وتأكيد لصلات الترابط والأخوة بين المصريين والشعوب جميعا.