هل تعود الروح إلى مستشفى قصر العينى الفرنساوي؟ فمنذ افتتاحه فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى وأنا أتردد عليه، وكان حلما لأساتذة جامعة القاهرة بعد أن ضاق بهم مستشفى الطلبة بميدان الجيزة وعندما تحقق هذا الحلم سعدنا به وبدأ المستشفى فى استقبال أفواج المرضى من أساتذة الجامعة وكانت بدايته مفخرة للطب فى مصر خصوصا عندما تولى رئاسته العالم القدير د٫فؤاد النواوى وفريق متميز من أساتذة الطب فى جميع التخصصات وتابعت على مدى سنوات الدور الريادى الذى قام به المستشفى ثم بدأ انحداره تدريجيا والذى تجسد فى تراكم المشكلات والهموم وانعكس ذلك بصورة مؤثرة على مستوى الأداء والإدارة وتقادم الأجهزة ونقص الأدوية بل واختفائها أحيانا والنظافة العامة وقد هجره العديد من أطبائه المتميزين مع تضخم عدد الموظفين حتى أصبحوا 5 آلاف موظف يتراوحون بين إداريين وعمال وفريق التمريض عدا الأطباء علاوة على ازدياد الديون التى بلغت 270 مليون جنيه وبدأت البنية التحتية للمستشفى فى التآكل بسبب عدم تجديدها فضلا عن ديون شركات الأدوية وشركات الصيانة وشركات النظافة التى هددت بالتوقف عن العمل إذا لم يسارع المستشفى بتسديد ديونه المتراكمة لها وقد اضيفت إلى هذه المشكلات قضية مستجدة خاصة باللاجئين من العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان وهم يشكلون حوالى 30% من المرضى ويتلقون العلاج فى المستشفى وغير قادرين على دفع النفقات ويخرجون بمديونيات دون اكمال السداد. والحقيقة أننى لم اتوقف عن إجراء حوارات مع جميع رؤساء المستشفى سعيا للتعرف على الأسباب التى تحول دون الاستمرار فى البداية الواعدة .. هل يرجع ذلك إلى سوء الإدارة أم إلى الفساد الذى بدأ يتسرب داخله أم تجاهل الدولة خصوصا وزارة المالية التى عينت خمسة آلاف موظف فى الوقت الذى لا يحتاج فيه المستشفى سوى خمسين فى المائة منهم فقط وادرجتهم فى الميزانية العامة للدولة وتركت عبء دفع رواتبهم (17 مليون جنيه شهريا) على المستشفى وكعادتى ذهبت إلى رئيس المستشفى الجديد د.نبيل عبدالمقصود وهو يتميز بسمعة طيبة وخبرة إدارية تدعو للتفاؤل وقد كان توقعى فى محله عندما تحدث بثقة واصرار لم أعهدها فى كثيرين ممن سبقوه فى هذا المنصب، إذ قال: لقد نجحنا خلال عام واحد فى تخفيض المديونية من 270 مليون جنيه حتى أصبحت 70 مليونا فقط فسألته: كيف تحقق ذلك؟ فأجاب من خلال ترشيد الاستهلاك إذ كانت هناك بنود صرف لاداعى لها حيث تم الاستغناء عن الخدمات الخارجية التى يمكن تقديمها بالجهود الذاتية كما تم إلغاء الأجر الاضافى وأحللنا مكانه النوبتجيات نظرا لوجود عدد هائل من الموظفين أغلبهم يحضرون ويوقعون بالحضور والانصراف ثم يغادرون المستشفى وهم يواظبون على تسلم رواتبهم أول كل شهر. والأهم من ذلك تم تعقب الفاسدين وعقابهم بيد من حديد وهناك عدد منهم محالون إلى التحقيق والنيابة كما تم حبس بعضهم. وقد ارتفع صوته قليلا وازداد بريق عينيه ثم صاح قائلا: لا يوجد مستشفى يخسر ولكن تتم سرقته، وعالجنا ذلك بإعادة الهيكلة المالية والإدارية. أيضا كانت بعض الكليات ترسل اذونات علاج باسماء وهمية وبسبب غياب المتابعة والرقابة خسرنا ملايين الجنيهات والآن بدأنا طريق المكسب حيث دفعنا المرتبات المتأخرة للأطباء واشترينا جهازا للرنين المغناطيسى وقسطرة تشخيصية وعلاجية ووحدة كاملة لمناظير الجهاز الهضمى مع تطوير وحدة الرعاية المركزة لمرضى الكبد، وإعداد الدور الثامن من المستشفى لتقديم خدمة طبية رفيعة المستوى لأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة وتم تركيب سور حديدى حول المستشفى وتم تنظيم خروج العاملين فى مواعيد انتهاء عملهم وفتحنا باب التواصل مع جميع العاملين فى المستشفى واعددنا صفحة على الفيس بوك للتعرف على المشكلات والعمل على حلها فورا. وأحسست بعد هذا الكلام ببعض الطمأنينة الحذرة وبادرته بالسؤال الأخير: ماذا ينقصكم لكى يستعيد المستشفى الروح التى بدأ بها. أجاب بابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه: هناك دعم غير مسبوق من رئيس الجامعة الحالى د.جابر نصار ولكننى أطالب وزارة المالية بأن تتحمل مسئولية الباب الأول من الميزانية وأعنى بها دفع رواتب الموظفين لتخفيف هذا العبء عن كاهل المستشفى لمدة عام واحد فقط لكى يتسنى للمستشفى أن يلبى بموارده الذاتية احتياجات العلاج للمرضى وتوفير الأدوية. كما ادعو رجال الأعمال إلى تقديم ما تسمح به ضمائرهم من إعانات وتبرعات للمستشفى وعلى الأقل يساهمون فى علاج أو تسديد مديونية اللاجئين المرضى من الدول الشقيقة. توقف رئيس المستشفى عن الكلام وانتابتنى حالة غير مسبوقة من التفاؤل غير الساذج وتمنيت أن تنتشر هذه النماذج الجادة النزيهة القادرة على مواجهة الفساد وسوء الإدارة فى جميع مستشفياتنا الحكومية والخاصة. د.عواطف عبدالرحمن